غاص المفكر والمؤرخ المغربي الدكتور حسن أوريد بعمق فكرى رصين في نقد الفكر الغربي الحديث على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ونجح عبر 190 صفحة في كتابه الجديد "مرآة الغرب المنكسرة"، بدراسة الظواهر الناتجة عن الأزمة الاقتصادية والمالية؛ ولكنه أبحر في عمق الأزمة وحاول ربطها بأصولها الفكرية ومستنداتها الفلسفية متعرضا للمسلمات والحقائق العامة التي يبني على أساسها الغرب منظومة حداثته. ويحتوى الكتاب على مقدمة وثماني مقالات عميقة، هي: “اقتصاد بلا ضابط"، “باسم التاريخ"، “عقل من غير عقال"، “جسد بلا كابح"، “صورة تعمي وتضلّ"، “الديمقراطية في مهب المال والأعمال"، “التقنقراطي عماد منظومة الحداثة"، “العدو هم الآخرون" بجانب العنوان الرئيس"، "مرآة الغرب المنكسرة"، ووقف أوريد عند التحولات الكبرى التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، وعلى رأسها “العولمة" وتداعياتها، وتنبأ بسقوط الغرب، بسلاح تلك العولمة التي ابتكرها. ولم يكتف حسن أوريد فقط بتحليل مسار التجربة الغربية، وتعرية أعطابها من الداخل، بل قدم قراءة نوعية حاولت من جهة أن تستنطق كتابات غربية نادرة جعلها المؤلف متنًا أساسيًا في تحلّيه، وأضاف إلى قراءته بعدا آخر نقل فيه مفهوم الغرب من إطاره الجغرافي الضيق إلى مفهومه القيمي الواسع واضعًا عدسة الكاميرا اللاقطة على ما أسماه ضواحي الغرب في العالم المتخلف والتي تشكل امتدادات لمفهوم الغرب ولثقافته وقيمه في بلداننا العربية، جاعلا من هذه العلاقة الحميمية بين الغرب وضواحيه مادة وحقلا للتأمل والبحث، فيما يندرج الكتاب ضمن مشروع فكري انخرط فيه أوريد منذ مدة لدراسة العلاقة بين الغرب والإسلام. آفة الديمقراطية الغربية ويعتبر الكتاب أن التوجه العلماني للمجتمعات الغربية على المستوى الفردي يحرر الإنسان من كثير من الأساطير والخرافات، ولكن في ذات الوقت يجعله وجهًا لوجه مع ذاته، فيكتشف الفراغ وانعدام المعنى. وفي فصل خاص في تحليل سلطة الصورة في مجتمع الحداثة الغربي، ويرى أن التلفزيون ليس وسيلة فقط، بل إنه تحوّل إلى أداة متحكمة. ويلاحظ أوريد أن التلفزيون لم يعد حكرا على القوى الحاكمة التي تتحكم فيه وتوظفه لتبرير هيمنتها وإمساكها بجميع خيوط الحكم. ويضع أوريد أصبعه على عيب يهدد الديمقراطية الغربية وينسفها من الداخل، ويرى أن المال ينخر الديمقراطية من الداخل. ويلفت في ذلك إلى القراءات الماركسية وكذا النازية، ثم قراءات المسيحية الجديدة التي أشارت إلى هذا العطب وأظهرت خطورته وتداعياته. فالمال، في قراءة المؤلف للتجربة الغربية، لا يكتفي فقط بنخر الديمقراطية من الداخل، بل إنه ينخر حتى القيم، ويحيلها إلى سلعة. ويقف أوريد في ملاحظات عميقة لعطب آخر من أعطاب التجربة الديمقراطية الغربية، وهو عطب الأحزاب السياسية نفسها، إذ بدل أن تكون أداة الديمقراطية، تصبح وسيلة للإجهاز عليها. ويستشهد في هذا الصدد بتجربة دوكول مع الأحزاب السياسية، وبرأيه فيها بعد أن راقب أداءها وطريقة اشتغالها. منظومة الحداثة وتتبع الكاتب موقع العقل في الحضارات القديمة والمنظومات الفلسفية لاسيما مع الفلسفة الإغريقية معرجا على الفلسفة العقلانية وفلسفة الأنوار مؤكدا حضور الدين في كل هذه التعبيرات الفلسفية مؤكدا على أن العلاقة لم تكن مقطوعة بينها وبين الدين. ويرصد الكاتب معالم التحول في الفلسفة الغربية وجنوحها نحو فصل العلم عن المعتقد مع فلسفة داروين والتي صارت بعد ذلك توجها مركزيا للغرب يتمثل في الاتجاه المادي الذي سيحوّل الإنسان إلى شيء أو حيوان. الثورة الجنسية وربما كان فصل "جسد بلا كابح" من أعمق فصول الكتاب لأنه عرى منظور الغرب للجسد ومفهومه للثورة الجنسية، بل وقف على المآل الذي انتهى إليه الجري وراء لهاث اللذة، أو ما اصطلح عليه بديكتاتورية اللذة. فالثورة الجنسية عند الغرب حسب المؤلف ليست شيئا ناتجا عن مقتضيات منظومة السوق فقط، بل هي جزء من النتاج النظري والفلسفي الذي تأصلت مستنداته في الفلسفة الغربية. فالجنس ليس شيئا ثانويا لدى الغرب، بل هو أسّ ثورته.. ويتوقف الكاتب طويلا على تداعيات هذه الثورة الجنسية وآثارها، وأهم الإشكالات التي أفرزتها بسبب تدخل السوق كفاعل قوي فيها (الدعارة، السياحة الجنسية، الإجهاض، تفكك الأسرة أو نهايتها، الزواج العابر، الطلاق المبسط، الأسرة الأحادية، الأسرة المركبة) وغيرها من الظواهر التي أفرزتها النظرة الثورية للجنس في الغرب والتي أدت إلى خلق اهتزازات نفسية للمرأة والطفل، وأفرزت أوضاعا نفسية ومجتمعية خطيرة. وينتهي الكاتب في تحليله إلى أن الفورة الجنسية التي يعرفها الغرب تخفي في الحقيقة أزمة أعمق تتمثل في رفض الغرب أن يراجع "حقائقه" وفرضه مواجهة تداعيات "مكتسبات تحرر الجسد".