المتأمّل في الخواطر التي سطّرها ابن الجوزي -رحمه الله- في مصنّفه يجدها متنوعة ثريّةً، تخوض في غمار كثير من القضايا والأحداث، ولا تقف عند جانب دون آخر، بل لقد ظهرت التجارب الحياتيّة في كل خاطرة من خواطره، فهو عالم مجرّب، وفاحص مدقّق، خاض تجربة طويلة المراس، وعايش الواقع الاجتماعي بكل أبعاده، وعرف العادات الإنسانيّة المسيطرة على الأذهان، وما يحسن منها وما لا يحسن، وما يستجاد منها وما لا يستجاد، وما يدور في العلاقات الاجتماعية بين الأصحاب والأقران والأقارب وأرباب الصنعة الواحدة من علاقات يشوبها في بعض الأحيان نوع من التطلّع إلى الآخر، والنظر على ما عنده، واقتناص الفرصة لإقصائه عن واقعه، حيث التحاسد والتباغض، وما يحدثانه من أثر سيئ بين أفراد المجتمع، إذ يوصي -رحمه الله- بالإغضاء عن تلك الهنات، وعلو الهمّة، والارتقاء بالنفس عن السَّفاسف والدّنايا، يقول في إحدى خواطره بعد أن سرد قصة مؤثرة: (وهكذا العاقل لا يلتفت إلى حاسده، ولا يعدُّه شيئًا؛ إذ هو في وادٍ وذاك في وادٍ، ذاك يحسده على الدنيا، وهذا همته الآخرة، فيا بُعْد ما بين الواديين). ويشير في خاطرة أخرى في مؤلفه النفيس إلى الحلول العمليّة لمثل هذه الظاهرة التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، يقول: (من البَلَهِ أن تبادر عدوًّا أو حاسدًا بالمخاصمة، وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تُظْهِر له ما يُوجب السّلامة بينكما، إن اعتذر قبلتَ، وإن أخذ في الخصومة صفحتَ، وأريته أنَّ الأمر قريب.. ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطنًا مع إظهار المخالطة في الظاهر، فإذا أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك لنفسك، ومن أعظم العقوبة له العفو عنه لله). إن في هذه الخاطرة ما يُصْلِح شأن الأدواء المنتشرة في أي مجتمع بطريقة العالم الزّاهد الورع، الذي لم يسع يومًا إلى نيل أمجادٍ زائفةٍ أو انتصاراتٍ وهميةٍ بائسةٍ، تضيع بسببها كل قيم النُّبل والوفاء، والرفعة، والهمم العالية. وما يمكن أن يوصف به الكتاب أنه يحل جملة من الخواطر الجميلة والتجارب الاجتماعية الصادقة، ويبثُّ خلالها تجاربه الطويلة، وخبراته الناجحة، وطول مراسه لمعترك الحياة، وإدامة قراءته لكتب الأعلام السابقين، الذين سطروا روائع تجاربهم وخواطرهم في مصنفاتهم النّفيسة، التي تعدُّ من ذخائر تراثنا الإسلامي في مختلف العصور.