يمكن إبداء ثلاث أفكار نقديّة عند قراءة ديوان الشاعرة اللبنانيّة الشابّة لوركا سبيتي «...عند أوّل مرسى» الصادر حديثاً عن دار النهضة العربيّة (بيروت). تتعلق أولاها ببداية كتابة الشعر التي تشفّ غالباً عن أمرين، مصادر القصيدة أو التأثّر بشعراء آخرين في كلام آخر، وقدرة الشاعرة في حسن الإصغاء ل «أنا الشاعر»، أي المزيج الناتج عن التدرّب على امتلاك الأدوات الفنية، وحسن التعبير عن الخيارات الفنية التي ترتبط في شكل وثيق بفنّ الشعر. ضمن هذا المنظور، تغدو الدواوين الأولى عامّة، مهمّةً بالنسبة للنقد، إذ هي تشير من ناحية إلى حضور الشعراء «السابقين» في نتاج «اللاحقين»، وتشير من ناحية ثانية إلى الخيارات الفنية الشعرية (اللغة، البناء، الشكل، الوزن أو اللاوزن...). وترسم هذه الأمور في مجملها طريق الشعر «الجديد» في بدايته، من خلال سؤالين: أهو استمرار «حاذق» لما أرسته الحداثة؟ أم هو انقطاع «مباغتٌ» عنها؟ وكلّ سؤال منهما، يعيد ترتيب بيت الحداثة من حيث هو يدلّ على أيٍّ من اقتراحاتها أقوى حضوراً وأوفر حظّاً في الاستمرار. وفي حالة لوركا يبدو تأثير الشاعر نزار قباني طاغياً، إذ إن «أنا الشاعرة» تستلهم صورة امرأة نزار وصوتها، بطريقة مقلوبة، فإن كان شاعر الحبّ والمرأة الشهير قد كتب الغزل الرقيق الذي تميلُ إليه النساء ويتوقّعنه، كأنه نابعٌ من تلقاء ذاته، فإن لوركا ستتقمص «صوت» المرأة التي كتبها نزار وصورتها، فهي التي تعبّر عن نفسها من خلال الحبّ والجسد باعتبارها متحرّرة كما أرادها نزار، ومن خلال الكلام البسيط الذي قد يبدو عفو الخاطر، وناجماً عن فكرة أو خاطرة مرّت في بال «المرأة العاشقة»: «دعني أغترّ/ بنفسي/ أمامي/ وقلّ لي شيئاً/ بعد منتصف الليل». لكن هذه المرأة «عاشقة» مجازاً، إذ هي «مستعارة» من أجواء الحبّ الخفيف الذي كتبه نزار، لذا فهي تحيلُ إلى الجسد الذي يتوق إلى اللذة من خلالِ فتحه على إباحيّة استُهلكت جمالياتها: «قلّ لي/ بعض الحبّ العاري/ عرّيني من الوحدة/ لامسني عبر الهاتف/ وبلهاث العتمة/ لأنتشي/ بلا رقيب/ لأحتسيك/ بكأس رضيب»، فهذا المقطع لا يحوي شيئاً تقريباً من اللعب اللغوي، وكأنّ اللغة الشعريّة نافلة، فهو بسيطٌ ومباشرٌ في إيفاء المعاني، وأقصى ما تفعله المفردة فيه أن تُكنّى بأخرى، من دون أن تنفتح الكناية على مجازٍ أو استعارةٍ جديدين. وفي كلام آخر فإن ممارسة الحبّ عبر الهاتف، وهو موضوع القصيدة الرئيس، يُصيب عصفورين ويخطئ أكثر من واحد، فهي أوّلاً «فكرة جديدة» غير مطروقة ربما في الشعر الحديث، وهي ثانياً تعكسُ قليلاً صورة المجتمع «الحديث» الذي نعيش فيه. وأعمق من هذا، فإن التأثّر بقصائد نزار قباني على هذا النحو، ينطلقُ من القبول بظاهر فحواها وبرسائلها، التي تدعو إلى تحرير المرأة بالحبّ، وترسم من خلالها صورة الحبّ المديني، الذي يعكس ترفاً بسيطاً من خلال أماكن اللقاء (القهوة والمرقص على سبيل المثل). لكن هذا الظاهر، يبطنُ عملاً لغوياً جميلاً أتقنه نزار قبّاني وغلّفه بكثيرٍ من الرقّة المتناسبة مع مواضيع قصائده، أمّا لوركا فترتاح إلى صورة امرأة نزار، لذا تسيرُ في طريقٍ معبدّة سلفاً، من دون أن تتفطن أن رسائل نزار تبطنُ نِظرةً ذكورية، لا بالمعنى الاجتماعي فحسب بل بالمعنى الشعري أيضاً، من حيثُ هي تصدر عن «أنا الشاعر» ذات القدرة التعبيريّة المكينة، التي تعرف إلى ماذا تصوّب وكيف. وربما فات لوركا عند السير في الطريق المعبدّة سلفاً، أنها بذلك تقيس «أناها الشاعرة» على صورة مسبّقة، تفرضُ عليها بهذا القدر أو ذاك، أن تعبّر عن نفسها من خلالِ المتوقع كمثل معادلة تقول إن حرية المرأة تمرّ عبر الحبّ والجسد، فظّنتْ والحال كذلك، أن الجرأة كلمة مرادفة للإباحية، وغاب عنها أن الجرأة شعريّاً هي في كون القصيدة صادرة عن حساسية الأنثى لا صورتها عند الذكر. تتعلقُ الفكرة الثانية في شكل القصيدة عند لوركا، إذ من الواضح، أنّها تعتني عناية خالصةً به. ويظهر أنها تميلُ إلى القصائد المقطعيّة التي تعتمد عادةً التوازي والتقفية: «أو كأنّي / ما وطّنت عيني/أن لا ترى سواك/ وما شيّدت بعبيري/نهراً/ يسقي حوْر نجواك/ كأني / ما نكستُ طرفي/ مهتابةً لجمال عريك/ وما استحممت بماء/ رجولتك/ وتنشفّت بدفء/ لبّك». وإن لم تكن القصيدة مقطعيّة، تلجأ لوركا إلى التجانس اللفظي: «فأراني أستنهر أنفاسي/ وأفكك عقدي الماسي»، والجمل القصيرة: وأنا أراك/ عصي الصبر/ صعب المراس/ مرّ اللسان». وليست الاستفادة من شكلٍ معطىً، أمراً مستهجناً على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، إذ هو يسمح للشاعر أن يتدرّب ويصقل قدرته على التعبير، واضعاً نصب عينيه إنجازاً من قبله. وقد يخفق الشاعر في التعبير أو ينجح، لكن الشكل في الحالتين ينقذ بناء قصيدته من مساوئ الاستمرار إلى ما لا نهاية. وتمثّل قصيدة (بطاقة دعوة) في الديوان مآل العناية بالشكل بصورة واضحة: «بعد أن ملّ الوقت/ لكثرة الغياب/ وصار الجسد/ طريدة الذئاب/ واختنق النبض/ بسميك الثياب..../بالله عليك هل ستأتي؟»، إذ ان هذه الجملة الأخيرة تعين الشاعرة في إقفال مقاطع القصيدة وفي ختامها معاً. وضمن السياق ذاته، تبدو لوركا، حين تتفلّت من شكلٍ معطى ورنينِ قافيةٍ، أقلّ إدراكاً للدور الانتقال من سطرٍ إلى آخر في إيقاع القصيدة، الذي يستطيع الشاعر التحكّم به، من خلالِ قطع السطور أو وصلها. كما أنّها تبدو أقلّ إدراكاً كذلك لدور بناء القصيدة في تأدية المعنى، فالقصيدة تستمرّ بقطع النظر عن المعنى، ولا يؤدّي ختامها دوراً واضحاً يعوّل عليه شعريّاً، كما في قصيدة (فيض لا يملأ الصفحة) مثلاً. لا تبدو لوركا كمن حسم أمره بالنسبة للخيارات الفنية الخاصّة بالفكرة الثالثة المعنيّة باللغة الشعريّة، وليس في هذا ما ينتقص البتّة من عملها، إذ غالباً ما يكون «أوّل» الشعر على هذا النحو، إذ ان اللغة الشعريّة تتراوح بين البساطة والمباشرة من جهة: «حبّك عجوز/ مخمورة/ متفانية/ كأسا / وراء كأس/ خيطا / يجرّ خيط/ قبلة / تمضغ / قبلة»، وبعض التراكيب ذات الرجع البلاغي الزائد من جهة أخرى: «كأنّي ما امتلكتُ شفتيّ/ بعد لأي» أو مثلاً «إستُنفذ نهج بياني/ وربضتْ خلف أفكاري/ حروب زماني». فكأن الشاعرة تختبر قدرتها في توسيع معجم قصائد الحبّ، حيثُ يرفد الرجع البلاغي الزائد قولها. لكن هذا «الاقتباس» يبدو منبتّاً عن أجواء أخرى، من حيث هو يتكئ على جملٍ مسبقة الصنع، فيخفي لغةً أكثر تأثيراً هي لغة لوركا الطازجة حين تتحرّر ممّا هو زائد، وتنأى عن البساطة والمباشرة: «هل بين العين والبحر/ دمعة،/ أم أنكَ امتلأت/ ثلجاً، ففاتتك / موسيقى باخ؟»، وهي بذلك تشقّ طريقاً غير معبدّة بقصائد نزار قباني، بل بخليط آخر يصغي ل «أنا الشاعرة» ويصوّب اتجاه التأثر ب «السابقين» حين يرى أن قصيدة نزار ليست «خارطة الطريق»، بل ضوء الطريق.