مدينة تقع على بعد خمسة وتسعين كم من الجنوب الغربي لمحافظة الرس في وسط الصحراء بين التلال والرمال، لم يمسسها لهو المدائن وضجيجها، ولم تلامسها يد الزيف شامخة رغم حيزها الضئيل من العالم، هي مدينة الحب والبساطة والسلام، تحضن القادمين إليها كأنهم أبنائها الذين أضاعتهم منذ قرون لا غرباء، لا تكاد تجد أحدًا من أهل المنطقة إلا وله قصة أو حكاية عن تلك الديار ولا بد أن للديار نفسها قصصًا وحكايات فهي شاهدة على عصور وما جبالها المحيطة بها الرواسي الشامخات إلا دليل قاطع وبرهان ساطع على قدم المكان وتعاقب الأزمان رغم قوتها وصلابتها. وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فبادوا والجبال جبال على مقربة من المدينة يقع جبل الريان وما أدراك ما جبل الريان؟ هو الجبل الذي ذكره الشاعر الأموي جرير: يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا وحبذا نفحات من يمانية تأتيك من قبل الريان أحيانا أما نمط الحياة المعتاد بالنسبة لأهل المدينة، فمع بزوغ الفجر وقبل أن تسدل الشمس خيوطها فتملأ الكون بالضياء يستيقظ أهالي مدينة "أبو جلال" على رنين منبه الإيمان الصادق الذي ينبعث من القلب كل صباح، ملبين نداء داعي الله مستنشقين عبير الرحمات قبل أن يتنفّسوا نسيم الصباح، يخرجون من بيوتهم زرافات ووحدانا، لكل واحد وجهة، ولكل وجهة حي، ولكل حي مسجد، ولكل مسجد رواد، ولكن هدف الجميع في النهاية واحد، هو التسابق لأداء الصلاة في المساجد، فإذا قضيت الصلاة انتشروا في الأرض يبتغون من فضل الله، كل حسب عمله وهوايته، راضين بقسمة الله مطمئنين على أن الأرزاق بيد الله، وكل سيستوفي رزقه، ذلل الله لهم الأرض، فمشوا في مناكبها وأجابوا بيادرها وسهولها، مستسهلين صعابها وشدادها، برودتها وحرها، لا ينظرون إلى نعومة اليدين أو القدمين، لأن الجوارح مجرد وديعة أودعها الله في جسم الإنسان ليعمل بها، ولابد يومًا أن ترد الودائع متخذين من مهنة الأنبياء رياضة حقيقية لتنشيط الجسم وتحكيم العقل، ألا وهي رعاية الغنم ومرافقة حمر النعم، يجتمعون في المساء وفوق رمال الصحراء تحت خيمة عربية تمايسها النسائم من كل جانب أمام مرابض الكوم وحظائر الغنم، يشربون الحليب ويحتسون فناجين القهوة، ويستأنسون بحديث البادية، يعيدون للذاكرة التاريخ العربي المجيد عبر العصور الغابرة، وما أن تختفي أشعة الشمس خلف الحجب وتتجلى ظلمة الليل حتى يرجع الجميع إلى بيوتهم غانمين حاملين معهم الفرحة والسرور، إلى من خلفوه في الصباح وراءهم ولسان حال الجميع يقول: وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا أبو العلاء الشنقيطي - مدينة أبو جلال