إصلاح ما فسد وتقويم ما أعوج يحتاج إلى أيد بانية وسواعد ناصحة وسلطة راشدة ترد الأمة إلى رشدها الجرائد والمجلات من أول وسائل الإعلام ظهورًا وأرخصها ثمنًا وأكثرها انتشارًا وفي نظري من أعمق وسائل الإعلام أثرًا وبخاصة في الجوانب الفكرية مهما جدَّ من وسائل حديثة ونشر آلي وتقنية جديدة. والجرائد والصحف رسل خير وقنوات علم وفقه وثقافة ووعي وبناء.. كان هذا هو الواجب والأساس الذي بني عليه ترخيصها وفي ذلك يقول معروف الرصافي من قصيدته (الجرائد) والتي بلغت اثنين وثلاثين بيتًا: وما الصحف إلا أن تدور بنهجها مع الحق أنَّى دار بين المعاهد وأن تنشر الأقوال لا عن طماعة فتأتي بها مشحونة بالفوائد وألا تعاني غير نشر حقائق وتنوير أفكار وإنهاض قاعد هذه رسالة الجرائد: 1- نشر الحقائق. 2- تنوير الأفكار. 3- إنهاض القاعدين. 4- نشر العلم للعلم لا للمكاسب والفوائد. 5- أن تكون مع الحق أنَّى دار.. ولا تحابي أحدًا على حساب الحق. فهل حافظت (الجرائد) و(الصحف) على تلك الرسالة، وهل وقف لهاث مديريها عند ذلك، وهل وقفت عند حد في الترقيع باسم التجديد، والتمييع باسم التطوير؟!. سؤال يحتاج إلى إجابات صريحة واضحة، وبراهين وأدلة واقعية .. ولكني لن أتصدى له لصعوبته وطوله؛ بل سأكتفي بالقول: إنَّ الصحافة التي ضلت الطريق وتاهت في غابات الفكر المرقع لم تأت بجديد في زماننا وإنما قد سبقت منذ عقود بمن هم مثلها أو أسوأ ... يقول الرصافي: جرائد في دار الخلاقة أضرمت لهيب خلاف بينها غير خامد ولم يكفها هذا الخلاف وإنما أطافت بنقص في الحقيقة زائد فما بين مكذوب عليه وكاذب وما بين مجحود عليه وجاحد وما هي إلا ضجة كل صائت بها مد للدنيا حبالة صائد أضاعوا علينا الحق فيها تعمدًا وعقبى ضياع الحق سود الشدائد إن بلاغة معروف الرصافي قد ألبست القصيدة ثوبًا قشيبًا وزادت قوتها؛ فالمحسنات اللفظية والمعنوية غير المتكلفة أكسبت القصيدة جمالًا وبهاء وزادت المعنى قوة وعمق تأثير. فالطباق بين أضرمت وخامد، والجناس بين صائت وصائد إبداع رائع من فارس الشعر وإمامه.. أما رسالة تلك الصحف في عصر الرصافي فهي: 1- إضرام نار الخلافات وتغذيتها!!. 2- نشر المفتريات وتلفيقها. 3- أصبحت الجرائد مجال تكسب (صائد) فالصيد هنا للمال والعقول والأصوات وغيرها.. فالتصويت للصيد والتصويت رفع الصوت باللسان أو القلم!! 4- التلبيس الذي ضيع الحق وشوه صورته. هذه حال بعض الصحف في ذلك العصر وما أكثر أشابهها في زماننا وإذا كانت تلك الصحف لا تزيد على -خمس- مثلًا في ذلك العصر فأنها في زماننا اليوم خمسين أو خمسمائة. إن الرصافي يقرر حقائق لا يستطيع عاقل أن يخالفها أو يجحدها.. وما أبلغ تعبيره وأوضحه، ولذلك لم أجد حاجة لشرحة أو التقديم له .. ولا التعليق عليه: أتبغون في تلفيقها نفع واحد وتغضون عن إضرارها ألف واحد؟! أما ما تدل عليه الجرائد والصحف فهو: ألا إن صحف القوم رائد نجحهم وما جاز في حكم النُّهى كذب رائد لعمري إن الصحف مرآة أهلها بها تتجلى روحهم للمشاهد كما هي ميزان لوزن رقيهم وديوان أخلاق لهم وعوائد (ميزان لوزن رقيهم) وتميزهم هكذا بلا تعليق فقد أفصحت الفكرة عن نفسها وشرح الشاعر معانيه وأبان مقصده بلا مواربة. وإذا كانت الحال كذلك -ميزان رقيهم- ولا معنى للرقي إلا أنه صعود للأعلى وطلب للأجمل وبحث عن الأصلح وسمو إلى الأفضل.. فهل خطت صحافتنا في ذلك الطريق، وهل من هموم روادها أن يرقوا بها ويعلوا شأنها ويفتحوا لمجتمعهم أبواب نهضته ونمائه وعزته ومنعته عن طريقها.؟!! أم أن حال أكثر تلك الصحف كما وصفها الرصافي: يقولون نحن المصلحون ولم أجد لهم في مجال القول غير المفاسد فإياك أن تغترَّ فيهم فكلهم يجر إلى قرصيه نار المواقد أدع إجابة السؤال للباقة وفهم وبصيرة القارئ الكريم، فالقارئ للصحف في عصرنا -أو هكذا أتمنى- يملك القدرة على تمييز الغث من السمين، والأصيل من المقلد والباني من الهادم.. ولا يحتاج إلا إلى تمهل وعمق فهم وإطالة نظر وغوص إلى ما وراء اللفظ من دلالات. إما إصلاح ما فسد وتقويم ما أعوج فيحتاج إلى أيد بانية وسواعد ناصحة وسلطة راشدة ترد الأمة إلى رشدها وتنتشلها من حمأة التقليد والتبعية والهزيمة التي تردَّت فيها وكُّبِلت بقيودها.. وحُرِمَتْ وهي في المستنقع أن تستنشق الهواء النقي وأن تشرب الماء العذب وأن تفكر بحرية وتستمتع بشخصية مستقلة لا تتبع للشرق ولا للغرب.. معاشر الكتاب: هي دعوة من القلب لكل واحد منكم، دعوة لحرية مسؤولة، واستقلال مشهود، وثبات على المبدأ، وحفظ للذمم وأصالة لا تنال منها رباح الفتن والشهوات، دعوة لكلمة يتيقن قائلها بأنه مسؤول عنها اليوم وغدًا، اليوم عند كافة البشر صالحهم وطالحهم وغدًا أمام من يعلم السر والجهر، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . يا معشر الكتاب: سهل جدًا أن نجعل الجميل قبيحًا، والمنكر معروفًا، سهل جدًا أن نلمع الباطل وأهله وسنجد من (يطبل) لما نكتب وينشره ويثني عليه ولكن حبل الباطل قصير، والحقيقة تغلب الصورة، والزبد يذهب جفاء ويكشف الصباح ظلام الليل وما ارتكب فيه من مصائب فلا تنشغلوا بلذة عاجلة عن يوم المعاد ولا تفرحوا بالقرب من الظالمين فإنه بانتظارهم عذاب عظيم ولن يكون لهم حميم ولا شفيع يطاع. أما معروف الرصافي فقد ذكر ونبه ونادى ووجدت أني أبلغ قوله وأنقل رسالته وأتمثل بآخر بيتين في القصيدة أنا محتاج لهما اليوم في مقالي هذا كما احتاج لهما في قصيدته: فلا تحملوا حقدًا على ما أقوله فإني عليكم خائف غير حاقد وما هي إلا غيرة وطنية فإن تجدوا منها فلست بواجد * عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية