من الأمثلة التطبيقية للقاعدة السابقة المتعلقة بوجوب رعاية مصالح الرعية تصرّف الإمام في بيت مال المسلمين، فيجب أن يكون تصرّفه في أموالهم كتصرّف وليّ اليتيم في مال اليتيم، فلا يأخذ منه إلا قدر حاجته، وإن كان موظفا فيأخذ ما يخصصه له الإمام من غير إجحاف ولا إسراف، ولا يجوز له أن يتخوَّض فيه بغير ما كسبت يداه. ومما يدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطًا - أي إبرة - فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة»، فقام إليه رجل أسود من الأنصار، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك -أي اعفني منه-، فقال صلى الله عليه وسلم: «ومالك»؟ فقال: سمعتك تقول كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم «وأنا أقوله الآن، من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى» رواه مسلم وأحمد، وقال صلى الله عليه وسلم «رُبَّ متخوِّض فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله، ليس له يوم القيامة إلا النار» رواه أحمد والترمذي. وقد التزام الخلفاء الراشدون رضي الله عنه ذلك، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت منه استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف» رواه ابن أبي شيبة والبيهقي، وقد أخذ المعنى من قول الله عز وجل: «وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف». وذكر القاضي أبو يوسف رحمه الله في كتاب الخراج قال:»بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، وبعث عبدالله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرضين، وجعل بينهم شاة كل يوم في بيت المال، شطرها وبطنها لعمار، وربعها لعبدالله بن مسعود، وربعها الآخر لعثمان بن حنيف، وقال: إني أنزلت نفسي وإياكم من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم، فإن الله تبارك وتعالى قال:»ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف»، والله ما أرى أرضا تؤخذ منها شاة في كل يوم إلا استسرع خرابها». وهذه الأحكام لا تقتصر على ولي أمر المسلمين أو رئيس الدولة، بل تشمل كل من تولَّى عملا، وامتدت صلاحيته إلى أن يتصرف في المال العام، فهو في هذا المال كوليّ اليتيم في ماله.