بينما كانت جماهير الثورة في مصر تحشد طاقاتها وإمكانياتها لإنجاز الأهداف التي نادى المصريون بها على امتداد سنوات متواصلة، تقدم إلى الميدان مصارعان محترفان، وانخرطا في عراك قوى لاستعراض القوة أمام الجمهور المحتشد الذي تراجع مكتفيًا بالفرجة، وبدا الميدان، الذي ظل لأسابيع مرادفا للوحدة وعنوانا للحرية، مسرحًا للكر والفر، والهجوم والدفاع، وتفنن كل مصارع في ضرب منافسه بلا رحمة وسط حماس وهتافات من مؤيديه وأنصاره! المصارع الأول يستمد قوته من مناصريه الذين يشيدون بالقيم التي نادت بها الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية، ولكنهم يفضلون أن يتم ذلك بعيدًا عنهم، فمراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم المميزة تحتم وجود هذا الاستثناء في رأيهم، وفى السياسة يطلق على مثل هذا النوع من الشخصيات اسم "النمبي" Nimby وهي اختصار لعبارة Not in My Backyard، وهو الذي يؤمن بالتطوير بوصفه سياسة عامة، ولكنه يعترض إذا ما حدث ذلك بالقرب من ممتلكاته، وللأسف تبنى الكثيرون ومنهم نخبويون ورجال أعمال ومثقفون وإعلاميون هذه الفلسفة في التغيير، بينما انشغل البعض في تفسير حجم التضحيات التي يجب أن يقدمها هؤلاء، وأفضى ذلك إلى طرح سؤال مهم وهو: أليس من الممكن أن تزول عن معظم "النبميين" شهرة ومكانة لا يستحقون نصفها بمعايير العدل والمنطق إذا أتى التغيير الثوري المنشود ثماره بالقرب من ممتلكاتهم؟ أما المصارع الآخر فيدعمه أنصار "اللمبي"، وأعنى الشخصية التي قدمها الممثل الكوميدي المصري محمد سعد، ورمز بها إلى الفوضوية التي لا تعترف بأى قوانين ولا نظام، وتتبنى "البلطجة" نهجًا لها لتنال حقوقها "بالذراع" ولا شيء غيره، وهؤلاء أيضًا يتغنون بالثورة وقيمها، ولكن الأحداث المتعاقبة كشفت أنهم - مثل منافسيهم - لا يقدمون المصلحة العامة على مصالحهم الشخصية نظرًا لانعدام خبرتهم وجهلهم وتوقهم الشديد للسيطرة! تفرغ المصريون لمشاهدة ذلك الصراع، واستقبل غالبيتهم الضربات المتلاحقة هنا وهناك والتي سمع صداها في مسرح البالون ومجلس الوزراء وماسبيرو ومحمد محمود وبورسعيد وغيرها، بصيحات الاستهجان، ولكنهم ظلوا غير مدركين أنهم قد انسحبوا بالفعل من الملعب الرئيسي، وأنهم قد أصبحوا مجرد متفرجين لا يحق لهم تغيير قواعد اللعب طالما ظل الحال على ما هو عليه! وسط زحام البشر والأفكار في الميدان لابد وأن يتّحد الشعب مرة أخرى لوضع قواعد اللعب بنفسه، وينظم طريقة احتشاده وتفكيره ليضيّق الخناق على من استغله ويمنح خروجًا آمنًا لمن نصره، والفرصة الآن مواتية لترك مقعد المتفرجين الدائم! [email protected]