فَطَر الله البشر على حب الحياة والاستمتاع بها، وهذا من أسرار كونها (فتنة للناس)؛ ف(الدُّنيا حلوةٌ خَضِرة)، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم، وليس من مقصود ربنا جل وعلا أن ينزع هذا الحب وهذه الجِبلة من قلب عبده، فلو أراد ذلك سبحانه وتعالى ما جعلها مَعبرًا للآخرة وموطنا لمحبة من أطاعه ورجاه؛ وعليه فإن الدنيا لا تُذم بإطلاق، والخطاب القرآني كثيرا ما يورد ذمها في مقابل غيرها إما باعتبار الأخرى الأبدية، أو باعتبار قوم غرتهم عن الله وذكره؛ فلا شك حينها في خطأ مقارنة الأبقى بالزائل. فحياة الحاضر متعة والبقاء فيها من النعم الكبرى التي منحها ربنا لجنس الإنسان، وهي بذلك مما يستوجب الشكر لله سبحانه وتعالى قولا وعملا (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث) [الضُّحى:11]، وهذا البقاء الحتمي للإنسان قبل موته، يتطلب منه عمرانا لهذه الحياة التي استخلفه الله فيها، وذلك له جانبان لا غنى للمرء عنهما: -جانب روحي يتمثل في الاستقامة على أمره وإعلاء كلمته وبسط حكمه وعدله في الأرض. -وجانب مادي لتنمية الأرض وإصلاحها للإقامة والاستقرار. فهذان الجانبان لا يصح (لا في الواقع ولا في الذهن) إيجاد التنازع بينهما، ولا إلغاء أحدهما على حساب الآخر؛ لأن الفطر الإنسانية لا يمكنها الاستغناء عن أحدهما دون الآخر، فلا رهبانية نبتدعها في دينه، ولا لهوا وغرورا مطلقا بالحياة الحاضرة، فالدين يسعى لإيجاد التكامل بين الروح والجسد، وهذا التكامل من أشرف الأوصاف والمقامات في ديننا الإسلامي (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هود:61]. ومما يتأكد قوله والتذكير به للنفس البشرية التي تستمتع (جبلة وطبعا) بالحياة أن الرب الذي خلق الحياة، وخلق الإنسان واستخلفه فيها؛ جعل لهذه الحياة قانونا ودستورا يسعد بها كل من اتبع هداه وسار وفق مواده وأحكامه، وعلى النفس أن تعلم علما يقينا أن الالتزام بالقانون، أو تقنين الحياة لا يعني تضييقها ولا سلبا لمتعها وملاذها، بل في تسييرها وضبطها وإسعاد البشر فيها، فالفوضى لا تعمر لا أرضا مواتا ولا قلبا غافلا، وهي مرفوضة في العقل السوي فضلا عن الشرع المقدس. فلنجعل من الحياة متعة كما هي، ولنجعل من التديّن متعة وسعادة؛ فذلك حقيقته ولبه (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]، ومن المعلوم أن الإنسان بجميع ثقافاته وأديانه على وجه الأرض يسعى لتحقيق الحياة الطيبة والمستقرة، وذلك ما كفله ربنا لكل من زاوج بين طبيعة الحياة المادية، وبين المتطلب الروحي للإنسان كما يريده هو سبحانه وتعالى؛ لأنه العالم فحسب بعالم الروح وما يسعده. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار) [البقرة:201] والحمد لله رب العالمين على نعمة الأمن والإيمان.. باحث في الدراسات الشرعية [email protected] [email protected]