** قرأتُ ما كتبه الابن والزميل الكريم الأستاذ فيصل الجهني عن القامة المتميّزة في أدبنا السعودي الحديث الزميل الدكتور عثمان الصيني، وقد كتبه بلغة أدبية راقية تناسب مقام المتحدَّث عنه. ** وشهادتي في «أبي محمود» مجروحة، إلاّ أنها سوف تلتزم الحياد والموضوعية فيما سوف أكتبه عنه، وعن حقبة عايشناها مع ثلة من أبناء هذا الوطن في رحاب جامعة أم القرى بمكة المكرمة -شرفها الله- كلية الشريعة -آنذاك-. ** فلقد شاءت الأقدار أن التحق بقسم اللغة العربية -هناك- بعد أن أنهيت دراستي الإعدادية بطيبة الطيبة في مطلع التسعينيات الهجرية، وللتأريخ فإن كلية الشريعة هي أقدم المؤسسات التعليمية في بلادنا، وتخرّجت أفواج من الزملاء الكرام في أقسامها، وخاصة قسم اللغة العربية، فيما ذكرت طرفًا من ذلك في مرثيتي عن السيد زيد الكتبي قبل أشهر عديدة. فلقد طوى شراعه، ورحل مثله في ذلك مثل: طالع الحارثي، وعبدالله الحسيني، وعبدالحميد علي عمر، وسواهم -رحمهم الله جميعًا-. ** كان الزملاء من الطائف -وخصوصًا من خريجي دار التوحيد- هم الأغلبية من طلاب القسم، وكان التنافس شديدًا بين الطلاب، ليس في التحصيل الدراسي فقط، ولكن في موضوع التثقيف أدبيًّا وفكريًّا، وخصوصًا فيما يتّصل بموضوع الأدب الحديث، وقضايا التجديد، ولعلّه من مآثر القائمين على شؤون القسم -آنذاك- وفي مقدمتهم رئيس القسم الأستاذ الدكتور حسن محمد باجودة أن أقاموا منبرًا مفتوحًا لطلاب القسم؛ ليتبادلوا من خلاله وجهات النظر المتباينة حول قضايا التجديد في القصيدة العربية، وكان موضوع شعر التفعيلة وروّاده من أمثال نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وعلي أحمد باكثير، كان هذا الموضوع يسيطر على معظم تلك اللقاءات المفتوحة، وكان الزميل عثمان -دومًا- من أنصار التجديد، ولكنه كان قادرًا على أن يكسب ود جميع الأطراف، ومع أنني أعترف أنني كنتُ أكثر ميلاً لشعرنا الكلاسيكي، ذي الصياغة الأدبية المحكمة، كما يعكسه شعر الرائدين حمزة شحاتة، وحسين سرحان، إلاّ أنه نشأ بيني وبين عثمان تقارب فكري وإنساني على مدى أكثر من أربعين عامًا، ولم تشب ذلك الود والتقارب شائبة، مع حفظ لمساحات الاختلاف بيننا في موضوعات شتّى. ** مع مطلع الثمانينيات الميلادية كانت حركة الحداثة في بلادنا -في ذروتها- وكان زميلنا «عثمان» منخرطًا فيها، ولكن بحكمة وروية، ومن دون تشنّج أو حيف بحق الآخرين في الاختلاف معها، وكان موقعه في الحركة موقع الناقد الحصيف، الذي يمتلك خلفية فكرية عن التيارات الأدبية الحديثة، ومدى اتفاقها أو اختلافها مع موروثنا الأدبي، ولكنني أزعم أن عزيزنا عثمان أدرك -قبل الآخرين- أن الحداثة خيار، وليست إلزامًا، وأن فرضها بالقوة، أو بالتعسّف يتنافى مع طبيعة الحياة، بل يضر بالحركة نفسها، ومدى تقبّل الآخرين لها، ولهذا فقد كان منصفًا لمبدعين لم يكونوا ضمن إطار الحركة، ولكنهم كانوا يملكون القدرة على التجديد الواعي في القصيدة الحديثة، مثل ما هو الشأن عند عبدالمحسن حليت، وسواه. * قبل أكثر من عقد من الزمن طرحتُ على زميلنا «عثمان» بأن قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجدة بحاجة إلى خبراته في تخصصه الدقيق -اللغة- فاستجاب للفكرة، وكان الزملاء جميعًا بما فيهم عميد الكلية آنذاك الزميل الدكتور إسماعيل كتبخانة، ورئيس القسم الزميل الدكتور جميل مغربي، مرحبين بانضمام مثل هذه الشخصية العلمية للقسم، ولكنني تلقيتُ اتّصالاً هاتفيًّا منه يطلب مني تأجيل رفع الطلب للجهات المسؤولة عن التعيين. * ويبدو أن الزميل والصحافي المعروف الأستاذ قينان الغامدي، الذي أُسندت إليه رئاسة تحرير الصحيفة الوليدة -آنذاك- الوطن 2000م كان في حاجة لرجل ثانٍ مؤتمن، وكان «عثمان» خياره لمعرفته السابقة معه، وكان هذا هو السبب في عدم انضمامه لأعضاء هيئة التدريس بقسم اللغة العربية. وظل «عثمان» الرجل الثاني في «الوطن» لمدة طويلة مرّ خلالها على الصحيفة رؤساء مختلفون سواء في تمرّسهم بمهنة الصحافة، أو في نهج تعاملهم مع الآخرين، وشعرت في إحدى مكالماتي الهاتفية معه أنه قد حان وقت رحيله من المهنة التي دخلها من باب الأدب، فأتقنها أيّما إتقان، وليس من المبالغة القول بأنه ربما أتقن حرفتها أكثر من قوم نشأوا في ظلالها، أو ارتووا من نبعها. * ولعل أمر رحيله -آنذاك- لم يعدْ شأنًا خاصًا به فأدرك معالي السيد إياد مدني وزير الثقافة والإعلام السابق بفطنت، ولماهيته أن عثمان صيد ثمين يفترض تقييده في وجهة -ما- فكان اختياره رئيسًا لتحرير المجلة العربية، بعد ان ترجل عنها الأديب المهذب الأستاذ حمد القاضي، ولعله من محاسن عزيزنا عثمان أنه كسب ود الكتّاب السابقين في المجلة، وأبقى على إطلالاتهم الفكرية والأدبية، وأضاف جديدًا في طرح موضوعات ثقافية تتماشى مع الحقبة التي نعيشها بكل تعقيداتها، ووسائلها، ومن أهم إنجازاته «كتاب العربية» بما يمثله من طرح جديد، ورؤية مستشرفة لآفاق الثقافة محليًّا وعربيًّا وعالميًّا. * أشعر يا عزيزي -عثمان- أن هذه المقالة لم توفّك حقك لغويًّا، وأديبًّا، ومثقفًا، وصحافيًّا، وقبل ذلك كله إنسانًا، تتقن صناعة الأحباب، كما تتقن صناعة الحرف، وتنزل الناس -على مختلف نزعاتهم، ومشاربهم- منازلهم؛ ولهذا كثر أحبابك وأصفياؤك، ووجد فيك النشء الجديد ما افتقده، عند الآخرين، فكثير الذين يقرؤون، وقليل الذين يصطفون.