** من التقاليد الجميلة والإنسانية التي اختفت في ساحتنا الثقافية والأدبية هو احتفاء الأجيال السابقة بالأجيال اللاحقة، حتى وإن كانت الأجيال الجديدة سلكت منحى أدبيًّا مختلفًا عن مَن سبقها في الحضور الفكري والأدبي. ولعلّي اليوم أسعى إلى أن أدوّن شيئًا يسيرًا من سيرة زميل رافقته في أكثر من دائرة علمية وأدبية، وأرى أن الوقت ملائم جدًّا للتذكير بشيء من إسهامات الآخرين، ونتاجهم من العلم والأدب، متذكرًا في هذا السياق، ولهذا القصد بأنه عند عودتي من البعثة العلمية في المملكة المتحدة البريطانية في 1406ه - 1986م، وجدتُ أمامي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجدة أجيالاً مختلفة الرؤى، ومتنوعة المنازع، وكان يعتمل في داخل القسم الكثير من الضجيج والصخب، فلقد ألقت حركة الحداثة بظلها على هذا القسم، وانقسم الناس حول ماهيتها وأهدافها، ولم ينقضِ زمن حتى هدأت العاصفة، وانقشع غبار المعركة، وعادت الألفة والوئام ليس لهذا القسم وحده، ولكن للساحة بعامة وهذا أمر طبيعي يحدث في جميع المجتمعات الإنسانية ولا يُستثنى منه أحد. ** سمعت بعد أشهر قليلة من انضمامي للقسم، ومن الزميل الأستاذ الدكتور محمد خضر عريف ثناءً حسنًا عن شابين يدرسان في جامعات الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكان أحدهما هو الزميل الدكتور عبدالعزيز السبيل، الذي رأس القسم في مرحلة لاحقة، ثم أضحى وكيلاً للشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والإعلام، أمّا الآخر فهو الزميل الدكتور حسن النعمي، ويبدو أن ثلاثتهم التحقوا في فترات مختلفة بجامعة إنديانا بالولاياتالمتحدةالأمريكية. ** عاد الدكتور حسن من بعثته ليشارك في بناء قسم اللغة العربية في جدة، وكان ذلك في منتصف التسعينيات الميلادية بعد أن نال جائزة الدكتوراة في الفن القصصي، ومن ثم اشتغل في التدريس في ميدان الأدب الحديث وفنونه، وساهم بفعالية في لجان القسم المختلفة، ولم يتطلع رغم جدارته لمنصب إداري داخل القسم وخارجه، وتواصل مع الساحة الأدبية عن طريق نادي جدة الأدبي، وخصوصًا عن طريق جماعة حوار التي رأسها منذ عام 2003م حتى وقت قريب، ورغم الزمالة التي جمعتنا في ظلال قسم اللغة العربية إلاّ أني عرفت الدكتور النعمي أكثر عن قرب عن طريق عضويتنا المشتركة مع زملاء كرام آخرين في مجلس إدارة نادي جدة الأدبي منذ عام 1428ه حتى الانتخابات الأخيرة التي صعد السلم فيها عدد من الإخوة والزملاء الكرام برئاسة الدكتور عبدالله السلمي وذلك من ثمرات الانتخابات، أو النهج الديموقراطي الجذاب الذي كثيرًا ما حلم به المثقفون والأدباء. ** كان زميلنا النعمي الذي رُشح في تلك الفترة أمينًا لسر النادي، دؤوبًا وجادًّا في عمله، ورغم تلك الجدية والصرامة في العمل الإداري إلاّ إنه كان يتمتّع بقدر كبير من رحابة الصدر، وسعة الأفق، وتهذيب المنطق مع بقية زملائه الذين كانوا يأتمنونه على صياغة محاضر الجلسات، والتي كان يرأسها الزميل الكريم الأستاذ الدكتور عبدالمحسن القحطاني الذي أبلى هو الآخر بلاء حسنًا في خدمة أهداف النادي، وتحقيق الكثير من طموحات المثقفين، وكان بعضنا يحتد أثناء تلك الجلسات ولكن زميلنا النعمي كان قادرًا على احتواء تلك المواقف الحادة والتي لا تخلو منها مؤسسة إدارية وثقافية، ولكنني أزعم صادقًا أنه كان هنالك قدر كبير من الانسجام بين أعضاء النادي، ولعل ذلك الانسجام الروحي مع البعد عن الصخب والضجيج والإعلاميين هو الذي أعطى النادي في هذه الحقبة القدرة على تجاوز الصعاب، وتحقيق العديد من الإنجازات التي اتطلع كغيري أن تُوفق الإدارة الحالية للنادي بمواصلة البناء على أسسها الراسخة منذ إنشاء النادي على يد الرائد الكبير الأستاذ محمد حسن عواد ورفاقه، وعطفًا على حقبة الرائد الأستاذ عبدالفتاح أبومدين أمد الله في عمره. ** كان دور الدكتور النعمي في نشاطات النادي الأدبي منذ حقبة الأستاذ أبو مدين متميّزًا، واستمر كذلك عطاؤه النقدي والأدبي، وأصدر عددًا من المؤلفات التي تُعدُّ مرجعًا في فن القصة والرواية السعودية، ويأتي في مقدمتها كتابه المعروف «رجع البصر: قراءات في الرواية السعودية» كما شارك في ترجمة فصل من فصول «كتاب الأدب العربي الحديث».. تاريخ كيمبردج للأدب الحديث، الذي حرره باللغة الإنجليزية الدكتور محمد مصطفى بدوي الأستاذ المعروف بجامعة كيمبردج البريطانية، وقد كان الفصل الذي ترجمه زميلنا النعمي يعنى بالرواية العربية بدءًا من رواية «زينب» التي كتبها محمد حسين هيكل، وصدرت عام 1913م، كما تتبع فيه مسار الرواية العربية حتى 1980م، والفصل في أصله باللغة الإنجليزية للباحثة هيلاري كيلباترك. ** وللتاريخ أن ما قام به دكتور بدوي هو جهد كبير ومقدّر سواءً في عطائه الأدبي والنقدي من خلال ما كتبه باللغة الإنجليزية مثل كتابه الهام «مقدمة للأدب العربي الحديث» والذي صدر باللغة الإنجليزية تحت اسم Acirtical introduction to modern Arabic poetry عام 1975م عن جامعة كيمبردج، أو ما ترجمه من مؤلفات أدبية ونقدية هامة مثل كتابي الناقد رتشاردز، «مبادئ النقد الأدبي»، و»العلم والشعر»، وكتاب «الحياة والشاعر» للناقد ستيفن سبندر، ثم الكتاب النقدي الهام لمؤلفه «جورج واطسن»، والموسوم «الفكر الأدبي المعاصر» modern literary thought وما تصدى له كذلك من ترجمة للعمل الأدبي الهام للمبدع الإنجليزي فيليب لاركين phlip larkin 1925-1985م، كما قدم بدوي دراسات أدبية ونقدية جادة في كتابه باللغة العربية »دراسات في الشعر والمسرح» الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب في طبعتين الأولى منهما عام 1960م والثانية عام 1979م، وكان بدوي عندئذٍ أستاذًا للأدب بجامعة الإسكندرية قبل انتقاله إلى بريطانيا لينضم إلى جيل من الأكاديميين العرب في الجامعات البريطانية والمعروفين بعطائهم العلمي والأدبي من أمثال البروفيسور وليد عرفات، والبروفيسور محمود الغول -رحمهم الله- والبروفيسور محمد عبدالحليم وسواهم. ** لم أبتعد كثيرًا في هذه الانعطافة العلمية عن شخصية الدكتور النعمي الذي يساهم مع جيل من أبنائنا وزملائنا في الارتقاء بالمستوى العلمي والدراسي لقسم اللغة العربية وحصوله على درجة الأستاذية؛ ممّا يبعث في نفوس الجميع الثقة -بإذن الله- في هذا الجيل الواعد والمتمكن. * أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبدالعزيز