سألتُ الراحل الأستاذ أنيس منصور يومًا، وكان يكتب نحو أربع مقالات يومية، من أين يأتي بالأفكار لكتابة هذه المقالات كل يوم؟ فأجابني بكل صراحة: «عندما لا أجد ما أكتبه.. أتوكأ على غيري».. سألته بفضول: كيف؟! قال بهدوء: أترجم.. أو أنقل عمّن قرأت لهم، أو عنهم. ولهذا كان أنيس منصور أول مَن نقل إلى القارئ العربي عن «وجودية» جان بول سارتر، وكان أول مَن عرّف القارئ العربي على الكاتب المسرحي السويسري المولد فريدريش دورينمات، عبر مسرحياته «زيارة السيدة العجوز»، و»القاضي والجلاد»، و»الوعد الكبير»، كذلك قادنا أنيس منصور حين اضطرته الكتابة إلى التوكؤ على غيره إلى معرفة الكاتب المسرحي الأمريكي تينسي ويليامز صاحب «عربة اسمها الرغبة»، و»الحيوانات الزجاجية»، و»قطة فوق صفيح ساخن» التي أنتجها ومثلها الفنان نور الشريف، والفنانة بوسي في فيلم حمل عنوان «قطة على نار». وأخذنا أنيس منصور في سياحة إلى عالم آرثر ميللر، فتعرّفنا على مسرحياته «بعد السقوط»، و»وفاة بائع متجوّل»، وأذكر أنه كلفني بترجمة كتاب أعده ميللر وزوجته المصورة الفوتوغرافية اينج مورات تحت عنوان: «صدام صيني» بعد أربع سنوات فقط من وفاة الزعيم الصيني ماوتسي تونج. ومع فريدريش دورينمات أتيح لنا الاطلاع على قضايا حيّرت الرجل، إذ كانت مشكلته دائمًا هى: كيف يستطيع المرء أن يبدع في عالم متخم بالثقافة؟! واحترنا معه ومازلنا حيارى، فما الذي يمكننا إضافته في سجل الإبداع الفني، أو التألق الفكري، بعد كل ما قدمه هؤلاء العظماء؟!. هذا السؤال الذي حيّر دورينمات وحيّرنا معه، أظنه أيضًا قد أثار حيرة المثقف المبدع د. فهد العرابي الحارثي، فيما كان يقدم لنا كتابه الأحدث «هؤلاء... وأنا»، فالعرابي قد توكأ على أبطال كتابه، لكنه نقلنا إلى عالمهم، ونقل إلينا بعضًا من أفكارهم، وتصوراتهم عن عالمنا. وفي مثل هذا النوع من الكتب، فإن الكاتب يبدع، رغم ما قد يبدو ظاهريًّا من أنه مجرد ناقل لإبداعات الآخرين، ويتجلى إبداعه أولاً في انحيازاته، حين اختار شخوص أبطاله، وثانيًا، حين اختار ما قد يقطفه لنا من غروس بساتين إبداعهم، وثالثًا حين استخدم مهارات الكتابة بلغة رشيقة ورصينة في آنٍ معًا. توقفت طويلاً في كتاب العرابي أمام بعض أبطاله، استوقفتني بالوما بيكاسو ابنة الفنان التشكيلي الأشهر بابلو بيكاسو، كنت ألاحقها بين السطور، وهى تهرب من اسم أبيها، كانت تشعر أنها قيد اعتقال اسم بيكاسو، وأنها لن تحقق ذاتها طالما تعامل الناس معها على أنها كذلك، وفي رحلة الهروب من شهرة أبيها، أخفت اسمه تحت جسدها الذي راحت تعرضه كل ليلة على الناس في مسرحية حملت عنوان: (Immoral Tales) «حكايات خليعة»، لكن النقاد والمشاهدين تعاملوا مع جسدها في الرواية باعتباره «جسد ابنة بيكاسو»، أي أن محاولات تحليق بالوما التي يعني اسمها بالإسبانية «الحمامة» بعيدًا عن شهرة أبيها، لم تفلح في تحقيق ذاتها، لا في إبداعها بتصميم المجوهرات، ولا حتى في التمرد بجسدها على اسم الفنان العالمي بيكاسو.. إنها فيما يبدو عقدة أبناء المشاهير. توقفت كذلك أمام ما كتبه العرابي عن الفنان الفرنسي جان دو بوفييه صاحب العبارة الشهيرة: «بدون الخبز يموت الإنسان جوعًا.. وبدون الفن يموت ضجرًا».. يعترف العرابي بصدق وعفوية أنه شهد معرضًا فنيًّا لدو بوفييه، استخدم فيه أدوات عرض غريبة كانت اللوحات خلالها تتحرك فوق عجلات ضمن سياق، بدا مسرحيًّا أكثر منه تشكيليًّا، لكنني وجدت بوفييه كما طرحه العرابي أحد من سبقوا زمانهم، واستشرفوا مستقبل الفن. أمّا أكثر من استوقفني وأهمني في كتاب العرابي، فهو شخصية الملك خوان كارلوس ملك إسبانيا، الذي عاد من المنفى ليجلس على العرش بعد أربعين عامًا من الحكم الدكتاتوري للجنرال فرانكو، فقد قرأته، وعيني على دول الربيع العربي، التي فوجئت شعوبها بسقوط تفاحة الديمقراطية في حجرها دون تأهيل مسبق لإدارة مجتمع حر، وبعد إرث طويل لدكتاتوريات أفرزت بيروقراطية عتيقة تمسك بمفاصل الاقتصاد والمجتمع.. كنت أريد أن أعرف كيف استطاع خوان كارلوس قيادة إسبانيا في المرحلة الانتقالية من الدكتاتورية المطلقة إلى الديمقراطية التامة؟ وقد عرفت.. فقد كان عنوان منهج خوان كارلوس «التغيير من داخل الاستمرارية».. شكرًا فهد العرابي.