كان فم الفتاة مليئًا بالسحر، فهي حين تهمس «نخلة» يتحوّل الهواء الخارج من فمها إلى نخلة صيفية طافحة بالعذوق مترنحة بالوجد، وعندما تلفظ «شمس» فإن جدران الغرفة التي تقبع بها تلمع بشدة بسبب التماع ضوء شمس باهرة تكورت من فم الفتاة الصغيرة، وعندما تلفظ «بيت»، فإن هناك بيتًا صغيرًا تتغلق أبوابه أمام عتمة المساء، بينما نوافذه تشع حميمية أشواق عائلية في آخر النهار. كانت الفتاة حينما تنطق «النهر»، فإنه يتلاطم نهر كبير، تتقوس فوقه الجسور تمخر المراكب الشراعية الصغيرة والتي تطلق صافراتها ليؤذن لها بالمرور. زهو الفتاة وفرحتها جعلاها لا تحس بضيق المكان إلا متأخرة، فالنهر حينما ينبع من بين أسنانها فإنها يجب أن تتوخى له المنحدر المتسع الملائم الذي يجعل جسده يسجي بكل عظمته وجلاله أمامها. بينما يجب أن تحرص قبل أن تلفظها الشمس أن تغطي الأشياء القابلة للاحتراق في الغرفة حولها قبل أن تتكور الشمس وتلهبها ولكن النسور أمرها سهل: فهي حين ترفرف من بين شفتيها، نحو السقف تظل معلقة هناك، تقلب أعينها الصارمة حثا عن نافذة تمنح الأفق. وابتدأت تعي لوعة المسافات والحيز، وعرفت أيضًا أن المكان الضيق المكتنز، جعل الناس ينسحبون من حولها ويتركون لها مكانًا مكتظًا بالكلمات المتجسدة فقط. عندها أصبح قلب الفتاة يعم بالوحشة، ويلح عليها في طلب أصوات بشرية، تطري وحشة الصمت، وتضيء الأنوار في الأركان العلوية المعتمة. ولأنها ظلت لا تتكل لستة أيام، ففي اليوم السابع تحشرجت بصيحة ولفظت: الحل.. وتجسد الحل من فمها على شكل قزم صغير بصوت رفيع حاد كصوت تلامس أوان صينية. كانت عيناه مستديرتين، وفي غوريهما تلتمع أسرار قديمة جدًا، ذلك منحهما بريق حكمة وسلام، الأمر الذي جعل الفتاة تطمئن إلى الكتيبات الصغيرة التي يحملها في جيبه الأيسر. أنا أعلم أنك تفتدينهم، وتتقدي ثرثرتهم، ووشايتهم وأحزانهم المتراكمة، وهياكل آمالهم المجوفة.. تشتاقين تحلقهم حولك وقد امتلأت أفواههم بالحديث المتكسر.. وطأطأت الفتاة برأسها كموافقة خجلى على ما يقوله. فالتقط من جيبه الأيسر كتيبًا، غلافه مزدان بالمثلثات البيضاء والسوداء، قلب في صفحاته، واستقر على صفحة وقال: أنت تبعثين بالكلمات من القلب إلى الفم، لذا فهي تكتسب قدرة المشيئة فتتجسد، لذا فكلماتك فبل أن تخرج من غرفات القلب اقسريها على المرور بالدماغ، فهناك سيهذبها ويشذبها، تمامًا كما يحول النجار شجرة يانعة إلى «قبقاب خشبي».. برقت عينا الفتاة كنجمتين، ودب في أوصالها الحماسة النشاط، ولكنها ترددت وسألته: - هل سأراك بعد اليوم؟ - قال: لا، فأنزيمات الدماغ تفتتني وستذيبني وخشية أن يبعثرها الخوف والتردد.. همست: - نسر، وعسفتها بقوة نحو الدماغ، فلما خرجت من شفتيها لم تكن سوى ن – س – ر ، والنهر.. أصبح ن - ه - ر والشمس أصبحت ش - م - س، وأخذ «القزم الحل» في التلاشي، بعد أن تفوقت الأبجدية العقلانية، وأخذت الكلام من التجسيد إلى التجريد، لكن فيما يروي بعد ذلك أن الفتاة.. أصبحت: ف – ت – ا – ة .. و من ثم .. ف – ت .. وبعد ذلك ف.. كان ذلك الحرف هو طورها الأخير قبل أن تتلاشى.. بينما كان الناس قد تجمهروا حولها!.