ولم يكن اعتماد القاصين على هذا التشكيل اللغوي الذي يذيب ما بين العوالم ويهيئ تمازجها ، منسوبا لهم فقط بل هو تشكيل أهل اللغة والمتخاطبين بها ، لكنهم كانوا أكثر حاجة إليه ، وأكثر التقاطا له ؛إذ تموج في سردياتهم حركة العوالم ، وهي تتداخل ، وتتمازج وتعلن عن دخولها في أتون حركة فعل الإنسان ؛ فكانت اللغة السردية الحاضن لهذه التمازجات والملتقطة لمقولاتها ... ففي نص ليوسف المحيميد بعنوان ( وشوشة جدران ناعمة ) نجده يعتمد على مقولة ( أن للجدران آذان ) الشائعة في الثقافة وفي المخيال الشعبي . ولذلك اشتغل في نصه على تجاوب الجدران الإنساني فنقل نعومة وشوشتها ومشاركتها العاشقين لحظاتهم الحميمية .. فاشتغل على هذا البعد وشكل علاقة إنسانية أخرى للجدران تنهض ضد علاقة الخوف والقلق ، وتنقل هذا القول مما يستخدم فيه كثيرا ، حين يستخدم دالا على الرصد والتسجيل على الإنسان استمع إلى قوله : " أما أمي فقد حفظتْ عنه : أن للجدران آذانا ، فلا تملك إلا أن تصمت في حضرة الصمت ، إذ الجدران وإن بدت صامتة فإنما هي تتنصت وتصغي . لكن لا أحد عرف قبلي أن الجدران تهمس .. توشوش في وله ، وتغمغم في لوعة مفرطة ! " ومن هذه المعرفة كان التواصل مع معشوقته عبر الجدار ، تحولت النقرة على الجدار إلى دعاء حب : " ... تعلَمت أن تلقن الجدار الاسمنتي شوقها ووحشتها . كانت دقات الجدار رسائل لا يفهمها سوانا ،.. " وهنا ينتقل بإحساسه الإنساني عبر هذا العشق إلى الجدران ، فيبادلها الحب والرضا ، يقول السارد : " عرفت أن الجدران دافئة وحميمة ، وأنها تنطق وتحكي ، تهمهم وتبوح وتبكي ، تعتب وتحن ، تشفق وتئن ، تهجر وتغدر وتغامر .. بالضبط الجدران تغامر وتخطئ أحيانا ، لتضعنا في مهب الخطر ! " وجاء نص لأميمة الخميس بعنوان ( الفتاة الصغيرة ) ، مجسدا لإحساس إنساني فطري باللغة يجعل اللغة تستحضر وجود الأشياء والعوالم ، يتدفق من القلب ويملأ الوجود أنسا وحيوية .. لكنه مع إحساس التمايز بين الأشياء والعوالم يأتي ( العقل ) ، الذي يجرد العوالم من تمازجها .. بدأت أميمة نصها بهذا القول : " كان فم الفتاة مليئا بالسحر، فهي حين تهمس ( نخلة ) يتحول الهواء الخارج من فمها إلى نخلة صيفية طافحة بالعذوق مترنحة بالوجد ." وتستمر على هذا النحو في رصد خروج عدد من الكلمات على هذا اللسان : شمس ، بيت ، النهر ، النسور ، وتشتغل الساردة على كيفية تعامل الفتاة مع هذه العوالم المستثارة : " بينما يجب أن تحرص قبل أن تلفظ ( الشمس ) أن تغطي الأشياء القابلة للاحتراق في الغرفة حولها قبل أن تتكور الشمس وتلهبها . أما النسور أمرها سهل . . فهي حين ترفرف من بين شفتيها ، نحو السقف تظل معلقة هناك ، تقلب أعينها الصارمة بحثا عن نافذة تمنح الأفق ." وكان لا بد من حل لهذا الإشكال مع تجسد اللغة ، فكان أن تجسد لها الحل اتساقا مع حركة النص..فأضحى أمامها يقدم الكتب والنصائح ؛ فقال لها من ضمن مقولاته : " أنت تبعثين بالكلمات من القلب إلى الفم ، لذا فكلماتك تكتسب قدرة المشيئة فتتجسد ، لذا فكلماتك قبل أن تخرج من غرفات القلب أقسريها على المرور بالدماغ ، فهناك سيهذبها ويشذبها ، تماما كما يحول النجار شجرة يانعة إلى (قبقاب خشبي ) " ويتماهى اشتغال النص مع تناقص إحساس الفتاة بالكلمات ؛ فيتقلص وجود ما تتحدث به ، ويتبع ذلك تقلص كلمة ( فتاة ) ومع إن الناس تجمهروا حولها حين لجأت إلى العقلانية ، ونفروا منها حين كان إحساسها بالعالم يتشكل من خلال لغتها .. إلا أن ذلك التجمهر لم يعصمها من الإحساس بتلاشي الوجود من خلال الكلمات ، فالكلمات آلت إلى أصوات ، وتبع ذلك وجودها ( فتاة ) ، أصبحت مثل حرف واحد فقط . " لكن فيما يروى بعد ذلك أن الفتاة أصبحت : ف ت ا ة، ومن ثم ف ت ، وبعد ذلك ف .. كان ذلك الحرف هو طورها الأخيرقبل أن تتلاشى ؛ بينما كان الناس قد تجمهروا حولها ! "