حدثنا محمود بن أنس، قال: لما دخلنا الأندلس، وهي في ثياب الجمال تتبهرج، ولسانها من الخجل يتلجلج، قلنا: كيف الحال، يا موطن الرجال، أنتِ بلسم الفؤاد، وأرض الآباء والأجداد، ومهبط جيش طارق بن زياد، فقالت: أهلاً بالأخوة من النسب، أهل الكرم والحسب، وبيننا سبب الإسلام أعظم سبب، ثم التفتنا إلى ثلاثة شباب، وقد ارتدوا أجمل الثياب، فقام أحدنا معرفاً بأسمائهم، ونسبهم إلى آبائهم، فقال: أما الأول: فاسمه عبد الرحمن بن طارق بن زياد. والثاني: عبد الله بن موسى بن نصير. والثالث: عبد السلام بن عبد الرحمن الداخل. فقلنا يا أبناء الأجواد، وأحفاد الأسياد، حدثونا عن هذه البلاد. فقال عبد الرحمن: أما قرأتم التأريخ، وما فيه من مدح وتوبيخ، أما علمتم أن أجدادنا دخلوا الأندلس فاتحين، مكبرين مسبحين، عظموا الله في القلوب، فملّكهم الشعوب، نشروا رضاه بالدماء، فرفع رايتهم في السماء، صدقوا في الديانة، فشرفهم بحمل الأمانة، نشروا العدل، وطردوا الجهل، فهم كالغيث على المحل، فلما تخلف بعدهم جيل، وضلوا السبيل، أصبحوا في الذيل. فقام عبد الله، فقال: يا الله، كيف كنا، وكيف أصبحنا، بعدما قصرنا في ديننا ما أفلحنا، كانت المنائر تؤذن بدعوتنا، والمنابر تضج بخطبتنا، كنا بالإيمان سادة، وللشعوب قادة، لأننا أطعنا الرحمن، وحكّمنا القرآن، وحاربنا الشيطان، فلما قعدنا عن الجهاد، وعصينا رب العباد، ووقعنا في الفساد، صرنا ما بين طريد وشريد، وقتيل وفقيد. ثم قام عبد السلام، فاندفع في الكلام، وقال: لما اتبعنا الأثر، حكمنا البشر، وبلغ مجدنا القمر، وفرح بنا البدو والحضر، فلما وقعنا في الترف، وأدمنا السرف، ودعنا الشرف، وصرنا كالصّدف. قال الراوي محمود: ثم دخلنا غرناطة، والقلب قد هد نياطه، فوجدناها قد كتب على بابها: السلام على من اتبع الهدى، وأجاب الندا، أنا غرناطة فاعرفوني، سُلبت من أيدي أهلي فارحموني، كنت مدينة العُبَّاد والزهاد والأجواد، فأصبحت ملعب الأشرار، ومرتع الكفار، ومسرح الفجار، فرحم الله عبداً ترحم عليَّ، وأهدى ثواب حجه إليَّ، فبكينا مما رأينا، وكأنها تشكو إلينا. ثم أتينا قرطبة، وهي معبسة مقطبة، فوجدنا على بابها كتابة، كأنها كتبت بالسبّابة، فقرأنا فإذا هي تقول: يا أهل العقول، أنا قرطبة دار العلوم، سلبني الظلوم، ونهبني الغشوم، كنت داراً للعلماء، وكعبة للحكماء، ومزاراً للكرماء، ومنزلاً للعلماء، واليوم أصبحت بارة للخَمَّار، وحانوتا للشَّطار، بعد أن كنت بيت الأبرار، وكهف الأخيار، فوقفنا نبكي، وإلى الله نشكي. ونادى منادينا، وصاح حادينا، فقال: أين القوم الفاتحون، أين الملأ الناصحون، أين صقر قريش، أين قادة الجيش، أين الناصر والزهراء، أين الحاكم والحمراء، أين المنذر بن سعيد، صاحب الرأي السديد، والنهج الرشيد. أين ابن عبد البر، الذي نشر العلم في البحر والبر، ونثر الجوهر والدر، أين الاستذكار، من أنفع الكتب في الآثار، أين التمهيد الذي ما حمل مثله البريد. أين ابن حزم، صاحب العزم، إمام الظاهر، صاحب العلم الباهر، والقلب الطاهر، صاحب القدح المعلّى، ومؤلف المجلّى، والمحلّى، الذي بلغ الإمامة، وألف طوق الحمامة. أين القرطبي صاحب التفسير، أين الشاطبي الإمام الشهير، حامل الفكر المستنير، أين ابن زيدون، وابن خلدون، وابن عيذون، وأهل الفنون، ما لهم لا ينطقون. أين لسان الدين الخطيب، ومؤلف نفح الطيب، وابن رشد الحفيد، الذكي الفريد، صاحب بداية المجهتد، ونهاية المقتصد. أين المنصور بن أبي عامر، البطل المغامر، صاحب العزم القاهر. لله كم من علم جليل، ورأي أصيل، ونسب نبيل، ووجه جميل، دفناه في هذا الثرى، وتركناه آية للورى. هنا تركنا أكبادنا، هنا دفنا أولادنا، هنا قبرنا أجدادنا، هنا دموعنا سفحت، هنا دماؤنا سفكت، هنا مرابع سمرنا، وهنا ديار شمسنا وقمرنا. هنا طرحنا نفوس الأبطال الأشداء، في بلاط الشهداء، هنا أرواحنا خفاقة، على قتلى معركة الزلاّقة. ما كنا نظن أنَّا إلى هذا الحال نصير، بعد أمجاد موسى بن نصير. اسألوا الجبال والوهاد، اسألوا كل ناد، واستنطقوا كل واد، عن كتائب طارق بن زياد. السلام على كل أندلس في الآخرين، وجمعنا بأهلها من المسلمين، في جوار رب العالمين.