تحت عنوان: «العربية لغة عالمية: مسؤولية الفرد والمجتمع والدولة»، عقد المجلس الدولي للغة العربية مؤتمره الدولي السنوي الأول بالتعاون مع اليونسكو في العاصمة اللبنانية بيروت في الفترة من 19 إلى 23 مارس 2012م، 26 إلى 30 ربيع الآخر 1433ه، وأعتقد جازماً أن هذا المؤتمر هو أضخم مؤتمر ينعقد في التأريخ بموضوع يتصل بحماية اللغة العربية وخدمتها وبحث سبل النهوض بها، وهي خطوة كان ينبغي القيام بها قبل عقود، ونحمد الله تعالى أن قامت ولو متأخرة بجهود مشكورة لهذا المجلس الوليد الذي يعتبر اليوم إحدى المنظمات العالمية المعترف بها دولياً، وتنعقد عليه آمال كبيرة في إحداث نقلة تاريخية تعيد لهذه اللغة الشريفة أمجادها لترجع كما كانت وتتبوأ الصدارة بين لغات الإنسان جميعاً، وما ذلك على الله بعزيز، والحق يقال إن القائمين على هذا المؤتمر العالمي قد بذلوا جهوداً غير عادية لإنجاحه، وقد نجح حقاً ولله الحمد، ويتقدمهم المنسق العام للمؤتمر الأستاذ الدكتور علي بن عبدالله بن موسى، ومعه جيش من العاملين المخلصين يتصدرهم شاب نشط هو الأستاذ محمد مروان الغزال الذي كان غزالاً حقاً في حركته الدؤوبة ليل نهار لتنظيم وترتيب كل شؤون المؤتمر من ألفها إلى يائها مع الإخوة والأخوات العاملين والعاملات، ولم يكن كل ذلك سهلاً في ظل مشاركة ما يقرب من خمسمائة باحث وباحثة قدموا إلى مدينة بيروت من حوالى خمسين دولة من آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا وأستراليا، بمعنى أن كل قارات العالم كانت ممثلة في المؤتمر، ووصل عدد الجامعات العالمية المشاركة إلى 158 جامعة من أنحاء العالم أما عدد البحوث والدراسات فتجاوز مائتين وخمسين دراسة وبحثاً، ومن عجب فإن هذه الأبحاث جميعاً طبعت في أربعة مجلدات ضخام ووزعت على كل المشاركين منذ اليوم الأول للمؤتمر، وقد استعرضتها فوجدتها خرجت في أبهى حلة منضبطة ومنقحة، رغم أن بعض الأبحاث لم يسلم للمؤتمر إلا قبل فترة وجيزة، وهذه السرعة في إصدار سجل المؤتمر لم أعهدها في أي من المؤتمرات الدولية التي حضرتها التي تصل إلى العشرات. وقبل شهرين فقط حضرت مؤتمراً في أمريكا وأعلم أن سجل المؤتمر أو ما يسمى (Monograph) وهو سجل إلكتروني وليس ورقياً، لن يصدر إلا بعد ستة أشهر من انتهاء المؤتمر.. لذا أعتقد جازماً أن إصدار السجل المطبوع الضخم للمؤتمر يعتبر قيمة مضافة للمجلس الدولي للغة العربية. وقد شهدنا اهتماماً عربياً وعالمياً بهذا المؤتمر قل أن نجد مثله في أي مؤتمر آخر، فقد كان راعي المؤتمر رئيس الجمهورية اللبنانية وأوفد وزير الثقافة اللبناني ليمثله، وحضر في حفل الافتتاح ممثلون عن اليونسكو وعن مكتب التربية لدول الخليج العربي، وعن جامعة الدول العربية وألقوا جميعاً كلمات تشي بأن هناك اهتماماً عالمياً بهذا المجلس وهذا المؤتمر، وهي لفتة غير مسبوقة للغة العربية تبشر بمستقبل مشرق إن شاء الله بعد عشرات السنين العجاف التي عاشتها هذه اللغة. وقد كانت «وثيقة بيروت» التي صدرت عن المؤتمر تحت عنوان: «اللغة العربية في خطر: الجميع شركاء في حمايتها»، كانت بمثابة خارطة طريق لكل الجهات والأفراد الرسميين وغير الرسميين للنهوض بهذه اللغة والتنبه للأخطار المحدقة التي تحيق بها، فقد تعرضت هذه الوثيقة للأنظمة والدساتير التي تنص على أن العربية هي لغة الدولة الرسمية في كل الدول العربية، ودعت الوثيقة إلى أن تسن الجهات الرسمية في العالم العربي القوانين والمراسيم والتشريعات التي تفرض على جميع الأفراد والمؤسسات الحكومية والأهلية التعامل باللغة العربية السليمة ووضعت الوثيقة تصوراً متكاملاً للقوانين التشريعية والأنظمة التنفيذية لذلك وتشمل: الأنظمة التعليمية بما فيها التعليم العالي، كما تطرقت الوثيقة لضرورة النهوض بالبحث العلمي الذي يخدم اللغة العربية، بما في ذلك إقامة مراكز أبحاث متخصصة في دراسة اللغة العربية. كما دعت الوثيقة إلى وضع اختبار الكفاية اللغوية في اللغة العربية، وإلى الاهتمام بحقل تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وإلى إحداث نقلة عصرية في التعريب والترجمة في كل التخصصات، وإلى تعريب لغة الإدارة في العالم العربي التي تقوم على الإنجليزية بالدرجة الأولى، وإلى ربط الكفاية اللغوية العربية بسوق العمل بدل ربطه بالكفاية اللغوية الإنجليزية أو الأجنبية عموماً، ولم تغفل الوثيقة الإشارة بقوة إلى الإعلام وضرورة وضع سياسة إعلامية عربية تحد من استخدام اللهجات الدارجة في الإعلام العربي أو اللغات الأجنبية، كما لم تغفل ضرورة الالتفات إلى التركيز على الثقافة العربية بدل الثقافة الأجنبية إضافة إلى موضوعات كثيرة أخرى كالمجامع اللغوية وتخصيص يوم عالمي للغة العربية. أعتقد جازماً أن تفعيل وثيقة بيروت حول اللغة العربية بكل محاورها ونقاطها كفيل بتجاوز أعوام كثيرة عاشتها لغة القرآن وهي تعاني من الإهمال، وتبشر بعهود ازدهار جديدة لهذه اللغة الشريفة.