نعيش زمنا تكاثرت فيه الفتن.. وعظمت فيه النوازل .. وانتشرت فيه المدلهمات الفكرية والثقافية .. والحراك السياسي .. وتخبّطت فيه حياة الناس بالخطوب والمحن. فزعزعت أمنهم .. وعبثت باستقرارهم . كيف لا .. وهم يعيشون بين حين وآخر نوائب تعارك الثقافات والسياسات والآراء والأهواء.. دون زِمامٍ ولا خِطام!! كلُّ يُدلِي بدعواه، وينافح عنها ويناضل فيها .. ويرى أنها الحق !! والناس يعيشون مدّا وجزرا بين تشويشٍ وتهميش وما وقع الناس في ذلك مع جهل .. أو قلّة علم !! بل على العكس .. وقعوا فيه وهم والعالم من حولهم يعيش تخمة في مجال العلم والفقه والاقتصاد والفكر والإعلام والسياسة. فالعيب ليس عيبا في وفرة العلوم .. لكنه في وفرة أسس أهمّ من العلوم ... ألا وهي وجود متانة حقيقية في الانتماء للدين. .. و وجود أرضية مشتركة من الوفاق .. ومرجعية قويّة. وحكمة تنير ليل الخصومة والتحارش والتهاوش والتهارش!! إننا نفتقد وجود حكمة تأخذ بأيدينا من رمال متحرّكة كلّما تحركنا ازددنا غرقا فيها .. وترسو بسفننا إلى برّ آمن. وهي وحدها سبيل النجاة من المهالك والمفاسد. كثيرا ما نذكر الحكمة والحكماء .. ونادرا ما نعي أهمية الحكمة .. ونقدّر الحكماء. وقد يختلط على البعض مفهوم الحكمة .. وأذكر هنا بعض ما قيل عنها منه تعريف ابن القيم بأنها : فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ( مدارج السالكين ). وقيل: إنها وضعُ الشيء في موضعه اللائق به وقد ظُلمت الحكمة في زمننا كثيرا فمنهم من يدعيها لنفسه، وينسب أعماله إليها، ومنهم من وصفوا بها وهم ليسوا أهلها .. وضلّوا وضلّ بعدهم من تبعهم. إن الحكمة مكمّلة للعلم والفقه في الدين .. وجاء ذكرها في القرآن أنها عطية الله ومنّته وهبته لمن أراد من خلقه. قال تعالى: ( يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب) البقرة: 269 إذاً فالحكمة منّة ، ونعمة عظيمة من الله تعالى يمتن بها على من يشاء من عباده ، وما أظنّ أن هناك شيئًا يهبه الله لإنسان بعد الإيمان بالله و حسن الخُلُق أعظم من الحكمة. وهي من الأشياء التي يمكن اكتسابها بالمراس والمران والمحاولات المجتهدة. والحكمة ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها كما قال صلّى الله عليه وسلّم والصحوة الإسلامية في يقظتها المعاصرة أحوج ما تكون إلى الحكماء. لأن الحكيمُ يعرِفُ متى يتكلَّم ومتى يسكت؛ لأنه يعلم أن الكلمةُ إذا تكلَّم بها ملَكَته، وإن لم يتكلَّم بها ملَكَها. والحكيم قد يكون حكيما بصمته. كما قد يكون حكيما بقوله وفعله. والحكمة التي تفتقر إليها مجتمعاتنا هي تلك المقدرة على ترتيب الأوّليات و الأولويات وتحديد درجات المصالح والتحذير من درَكَات المفاسِد. لأنه عندما يكون الحال مشوّشة .. والأحداث مُتنازَعة الهويَّة، والطريق غامِضة المآلات.. والأصوات مختلطة فإن أوّل من يقع في الشراك والأفخاخ هم أولئك البُسطاء الذين تحرّكهم أصوات تعلو بالحماسة .. وتدغدغ أوتارهم الحساسة .. كثيرون حولنا .. ويطلّون علينا من هم أصحاب علم ودراية وتفقّه في الدين لكنهم يفتقِرون إلى الحكمة التي هي مزيجٌ عجيب متماسك القوام من علم انفتح على الواقع المتتبّع لحركة الناس والمُجتمعات في الحياة . إن العلم الجامد الذي لا يتفهّم حركة الزمن وتقلّبات العصور ولا يلاحق الحياة في خطواتها .. علم عقيم .لا يأتي بخير ... ولا يوجّه إلى خير. والتفقّه في الدين الذي يغفل سرّ صلاحية الدين لكل زمان ومكان ... هو تفقّه مهلك ومفاسده عظيمة العواقب. ولقد أحسن من قال: ولا خير في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ والمشهد الحياتي من حولنا يمتليء بصور الغلو والتطرّف في اتخاذ منهج دون آخر مع ضياع الحكمة في ذلك. فالمسلمون متنازعون بين خطاب علمي بحت ... يخلو من حكمة الطرح. وخطاب ديني يفتقر إلى حكمة التوجيه والتوجّه مما جعل الخطوب تزداد .. والفتن تكثر .. والصراعات لا تهدأ . وجلّ ما يحتاجه المسلمون هو وجود حكماء يجمعون بين العلم والدين ..أو علماء يتحلّون بالحكمة ورجاحة العقل ليعيدوا صياغة المشهد المعاش بطريقة لا تؤدي إلى مزيد من المهالك.