قراءة الأبراج هي الأميَّة بعينها. منذ الفراعنة والبابليين والآشوريين والكلدانيين في العراق، ثم الهنود والصينيين والفرس، والجهالة تقود إلى البحث عن أسرار المستقبل البشري عبر عوالم أخرى. «شعب المايا» من أصول هندية، ويعيش في أمريكا الوسطى، لديه حسابات وتقديرات وأرقام حول الفلك والنجوم ومراحل الحياة الإنسانية. هو شعب متفوق ومتميِّز رياضيًّا، بيد أن مسألة التنجيم هي أسطورة لا حقيقة لها. تقدَّم الإنسان فظلت مسألة الغيب المستور تؤرقه، وهو يحاول أن يزيح عنها الستر، ويكشف ما سيحدث له على الصعيد الذاتي أو الجماعي. المرأة الأميَّة في قريتنا كانت تتساءل عن الزواج والبيت الذي ستسكنه والرجل الذي سيدخل حياتها، الجهالة تجعلها تركب الحمار، وهو أغبى الحيوانات، وتخاطبه قائلة: أبا الهادي! وين بلادي؟ فحيثما وجَّه بها ظنَّت أن زواجها سيكون صوب تلك الوجهة. المثقفون اليوم في العالم الغربي خاصة يتردَّدون على بيوت العرَّافات، ويطلبون المشورة. الرياضي قبل أن يخوض المباراة يسأل السحرة. الفنان يتساءل معهم عن مستقبل عمله ومشروعه. السياسي أيضًا! الرئيس الأمريكي ريجان وزوجته نانسي تحوَّلت العرافة معهما إلى حارس شخصي، خاصة بعد محاولة الاغتيال التي تعرَّض لها، وصار لا يتصرف في شيء إلا بعد الرجوع إليها. جاك شيراك في فرنسا.. وآخرون يقعون ضحية الوهم، ويدفعون الأموال الطائلة للحصول على مشورة. أكثر من ربع مليون دجال يعملون في مصر، وفي العالم العربي أكثر من خمسة مليارات دولار تصرف على السحر والشعوذة والتنجيم سنويًّا. قراءة الكف، قراءة الفنجان، قراءة الخط. متى ميلادك بالتحديد؟ بالشهر واليوم والساعة والدقيقة، يبني عليها دراسة في الإنترنت ويربطها بمراحل النجوم وأزمنتها، ويقدِّم لك معلومات تختلط فيها الحقائق بالأوهام، مع إضافة ملعقة من الحَدَس والذكاء، وأخرى من الخبرة والتجربة مع آخرين، وربما كان لدى العرَّاف موهبة خاصة استغلها في غير طاعة الله، أو استعان بالشياطين، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فى السماء، ضَرَبَتِ الملائكةُ بأجنحتها خُضْعانًا لقوله، كأنه سِلْسِلَةٌ على صَفْوَانٍ، فإذا (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا) لِلَّذِي قَالَ: (الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). فيسمعها مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، ومُسْتَرِقُ السَّمْعِ هكذا بعضُهُ فوقَ بعض فيسمعُ الكلمةَ، فيُلْقِيها إلى مَن تحتَهُ، ثم يُلْقِيها الآخَرُ إلى مَن تحتَهُ، حتى يُلْقِيَها على لسان السَّاحر أو الكاهن، فربما أَدْرَكَ الشِّهَابُ قبلَ أن يُلْقِيَها، وربما ألقاها قبلَ أن يُدْرِكَهُ، فيَكْذِبُ معها مائةَ كَذْبَةٍ، فيُقالُ: أَلَيْسَ قد قال لنا يومَ كذا وكذا كذا وكذا؟! فيُصَدَّقُ بتلكَ الكلمة التى سمعَ من السماء». وأنت ترى في الأسواق في بلاد العروبة والإسلام من تركيا لإيران إلى لبنان والشام إلى العراق.. نساء فقيرات غير متعلِّمات يقمن بهذا الدور في الشوارع والأزقَّة، وربما وقف عندهن أستاذ في الجامعة أو ثري أو فتاة مثقفة متخرِّجة .. سألتُ أحدَهم ذات مرة: لماذا تسأل هؤلاء، ولو كانوا يقدرون أو يعرفون لحسَّنوا من أوضاعهم، فالله تعالى يقول: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ). فلو كان المرء عارفًا بالغيب، لسلك السبل التي يعلم أنها توصِّله للنجاح وتحميه من الفشل والإخفاق؟ فقال: إنها مجرد «تجربة»! الشيء المهم أن مسألة واحدة يصدَّقون فيها، وأخبر عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أغلق هذا الباب نهائيًّا؛ لأن إدخال التأثيرات الروحانية للنجوم والأفلاك في مجريات الأحداث البشرية أو في معرفة المقادير الإلهية من أعظم أبواب الضلالة والخداع. ولذا جاء في الصحيح: «مَن أَتَى عَرَّافًا فسأَلَهُ عن شيْءٍ، لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أربعينَ ليلةً». فالشريعة التي دعت العقول إلى التفكير والنظر، حرَّمت إقحام الخرافة في أمر الغيب والمستقبل حتى في حال وجود احتمال ضعيف لصوابيتها، وقدَّمت بديلًا علميًّا وشرعيًّا بالمشورة والاستخارة والرؤيا الصالحة والدراسة الواقعية. الطبيب الفلكي أو الروحاني هو مخادع كبير متقن لعمله، يجمع المعلومات الواسعة حول ضحاياه، ويتفرَّس في وجوههم، وضحاياه غالبًا رؤساء وملوك وأثرياء ووزراء ولاعبون مشاهير. في تاريخنا ما يسميه بعضهم ب»الجفر». وثَمَّ مواقع إلكترونية متخصصة في ذلك، وقد قرأت بعض معلوماتها. قالت لي أخت: أرجوك.. اذهب إليه، حتى لقاح الإنفلونزا، الطيور والخنازير.. موجود فيه. آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فضل ومكانة، ولكن كما قال علي رضي الله عنه، وقد سأله سائل: هل خصَّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لَا والذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إلا فهمًا يُعطيه اللهُ رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قيل: وما الصحيفة؟ قال: العَقْلُ (يعني: الديات) وفِكاك الأسير، وأن لا يُقتَلَ مسلمٌ بكافر. وليس في الإسلام إقطاعيات ولا خصوصيات، إلا أن الله يفضِّل بعض الناس على بعض في «الفهم»، وقد فضَّل الله عليًّا رضي الله عنه من آل البيت، كما فضَّل أبا بكر وعمر ومعاذًا وابن عباس رضي الله عنهم. العقل الإسلامي يجب أن يكون عقلًا علميًّا معرفيًّا، بعيدًا عن الخرافة والوهم والتعلُّق بالأسطورة، وأن يتجه صوب الاكتشاف ومعرفة السنة والنواميس والأسرار التي أودعها الله في خلقه وكونه. والقرآن كان شديد الوضوح في مسألة علم الغيب، حتى قال سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ). فأخبر ألا أحد يظهر على الغيب، إلا مَن ارتضاه الله من الرسل، وحتى في شأن الرسل، فهم لا يعلمون الغيب كله، ولذا قال: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)، فالغيب الذي يعرفونه هو الوحي الذي يُوحى إليهم فيما يتعلَّق بالبلاغ والحجة والرسالة، والآيات التي يجعلها الله مصداقًا لدعوتهم. لن نحقِّق الرُّقي والحضارة ونحصل على التقدم المعرفي؛ ما لم نُعْمِل العقول بالمنهج العلمي الصحيح، ونحرِّرها من الأوهام، خاصة تلك الأوهام التي تستحوذ عليها باسم الدين! الفقاعات الإعلامية، والأفلام التي تتحدَّث عن نهاية العالم عام (2012م)، أو هرمجدون؛ هي تقحم في مجاهيل تربك عقول الناس، وتستنزف ثرواتهم، وتجعلهم يعيشون في رعب متواصل. حين يكتشف الناس الحقيقة يكونون قد خسروا كثيرًا.. كم من الأموال أُنفقت في سبيل الحصول على مادة تستثمر الإثارة وتهجم على الغيب بلا رَوِيَّة؟ حين أعلنت وكالة (ناسا) كذب الادعاءات المنسوبة إليها من أنه سيكون ثَمَّ عاصفة تعيد العالم إلى عصر القرون الوسطى.. شكَّك الكثيرون في الإعلام وصدَّقوا الكذبة! ربما لأنها كانت أسبق، وبعضهم يظن أن الأمر حقيقي، ولكن السياسة تريد أن تحجر على الخبر. السياسة تبيع الوهم، من نوع آخر، أوهام الوعود الانتخابية التي تُعطي الناس الشمس بيد والقمر بالأخرى، وتكسب على حساب المسحوقين والمحرومين، هي تمارس بيع الوهم، وتمارس تخدير العقول، حتى لا تكتشف الوهم.