لكل إنسان آماله وتطلعاته وأحلامه التي يتحسس سبل تحقيقها في حياته.. يستوي في ذلك الجميع.. الكبير والصغير والذكر والأنثى.. والغني والفقير.. والجاهل والمتعلّم.. ذلك لأن الأحلام والآمال ليست حكرًا على أحد دون أحد. وهي -أي الأحلام- ممَّا لا يمكن تقييده في الإنسان حتى لو جرى تقييد جسده. وحبسه.. ومحاصرته. كما أن الأحلام عالم غير قابل للاختراق. ولا التجسس.. ولا يملك أحد مهما بلغت قوّته وسطوته أن يوقف لأحد حلمًا أو يمنعه منه أو يحاسبه عليه ما دام يدور بخلده ويعيش داخل فكره. ولكن البعض يخلطون بين الأحلام والأوهام. ويضيعون وراء تحقيق الأوهام.. ويضلّون طريقهم نحو الحلم الذي يستحق السعي والاجتهاد. ويجدون أنفسهم كالظمآن يغريه سراب بقيعةٍ يحسبه ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. ووجد أن سعيه وتعبه وبذله ذهب أدراج الرياح. وأصعب أنواع الوهم وأشدّها خطورة تلك التي تعشش في الأفكار.. فتحجب الحقائق.. وتسبّب تحجُّرًا في القناعات، وتجمُّدًا في المواقف وتضيّع حقيقة الانتماءات. وتشوّه ملامح الخريطة.. فإن سلك فيها المرء دربًا صعب عليه أن يعود.. وتقطّعت به طرق الإياب. البعض يقع في الوهم فيسلبه القدرة على التمييز.. ويُحاصره بحواجز عالية الأسوار تحرمه من إعادة التفكير، والاستفادة من النصح، والقدرة على إصلاح الحال. وقد جمح الوهم بالبعض.. وركض بهم بعيدا فظنّوا أنهم يتقدّمون في السباق.. وغاب عنهم أن ركوب الحصان الجامح المتمرّد لا يؤدّي إلى فوز في سباق بل إلى وقوع.. لكنّ أحدًا لا يدري أيكون الوقوع على صخر أم في هاوية!! كم من واهم انساق وراء وهمه.. فضيّعه وهمه وسلبه وعيه وشتّت انتماءاته وبعثر هويّته. ولقد صدق الله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (يونس: 36). ربما يبرّر البعض أن للإحباط المتكرّر. والانهزام المتوالي دورًا في وقوع المرء فريسة للأوهام التي يظنّ أنه بها يستطيع أن يخفّف من جراحه وآلامه. لكن هذا ليس سلوك الشخص القوي.. فالقوي لا يهرب بالوهم من الواقع. ولا يدلّس على نفسه.. ولا يختار أن يضع على بصيرته غشاوة تزيده تعبا وألما وضياعا. الوهم لا يستطيع أن يغلب شخصا قويا.. تمسّك بقواعد دينه وتسلّح بالإيمان والعلم والصبر والعزيمة. الوهم يفترس عادة المتهوّرين والذين يعيشون صراعًا داخليًا يمزّقهم.. ويبحثون في الوهم عما يمنحهم القوة. ولا عجب أن نرى أن الوهم يجعل الضعيف قويًا والبعيد قريبًا ويزيّن الأمور.. لذا يسحب في تياره من صدّقه وعطّل فكره عن العمل لإبطال سحر الوهم وخديعته. مشكلتنا اليوم أن الوهم صار بضاعة يتاجر بها البعض.. نصبت لها الأسواق وكثر زبائنها ولكل منهم دوافعه لشراء جرعات من الوهم يتلهّي بها عن منغّصات حياته. كمن يتوهّم بأن المخدرات أو المسكرات تنسيه همومه وتسعده. وكمن يدخّن نافثا دخان سيجارته في الهواء متوهّما أنه ينفّس عن نفسه!! وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كلُّ الناَّسِ يغدُون.. فبَائِعٌ نفسَهُ فمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا». إنّ الوهم وهن.. والوهن هم.. وما يتغيّر حال الواهم إلا من سيء لأسوأ.. ولا يتنقّل إلا من همّ إلى هموم. ومن ضعف إلى وهن إلى عجز إلى هلاك. سيقول قائل: وكيف لي أن أعرف إن كان ما يسكن خيالي حلم أم وهم؟! وأقول له: الوهم ينسج غشاوة على العقل ويضيّع الحقائق، ويغيّر المفاهيم، ويحيط الحقائق بضبابية مرهقة. فيجعل الزَّيْن شَيْنًا، ويزيّن الشرَّ فيجعله خيرًا، ويضيّع الحدود البيّنة بين الحرام والحلال. بل قد يجعل الحرامَ حلالًا، والحلالَ حرامًا. أما الحلم المشروع فهو ما يطير بك إلى آفاق جميلة دون أن تجور على أحد، أو تدوس على حقّ أحد.. أو يتوه منك اتجاه البوصلة الصحيح.. ودون أن تختلط عليك المفاهيم.. وتضيع منك الحدود والحرمات.. ودون أن يضيع معه وعيك ويضلّ ضميرك.