تحدثت في الحلقة الماضية عن بدايات حالة الفراغ السياسي والاستراتيجي التي تعاني منها الأمة العربية، واستعرضت أثناء حديثي ذاك النتائج الأولية التي أدت إليها حالة الفراغ تلك، حيث عرفت المنطقة نشوء المحاور المتصارعة. أما الورطة الكبرى التي وقع فيها العالم العربي فحدثت عندما هاجم نظام صدام حسين جارته إيران، فانقسم العرب فيما بينهم ووقعوا في شراك الفخ الذي نصبته لهم يد الاستعمار. الحرب العراقية الإيرانية كانت الأكثر كلفة بين جميع الحروب التي خاضها العرب، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أنها كانت حرباً عبثية بلا غاية إستراتيجية، أو ضرورة تفرضها المصالح القومية. ومما ساهم في ضياع البوصلة أكثر، هو تزامن الاحتلال السوفييتي لأفغانستان مع الحرب العراقية الإيرانية. هذا التزامن هو الذي أدى إلى تهميش القضية الفلسطينية وإلى تعميق حالة الحياد التي كانت قد بدأت في النمو تجاه العدو الصهيوني. وهي الظاهرة الأخطر التي أصيب بها الوعي والوجدان الجمعيّان للعرب في مرحلة الثمانينيات. حتى الانتفاضة الفلسطينية لم تنجح في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة ولم تساهم في القضاء على حالة الحياد تجاه العدو الإسرائيلي. فالعدو الأول بالنسبة لبعض العرب كان الاتحاد السوفييتي باعتباره ممثلا لقوى الإلحاد العالمي، والعدو بالنسبة للبعض الآخر كان إيران باعتبارها ممثلة للمشروع الرجعي في المنطقة. أما الصراع العربي الإسرائيلي فلم يعد يعني معظم شعوب المنطقة. الخطاب الديني المتشدد الذي كان يمثل الغطاء الأيدلوجي لما يسمى بالجهاد الأفغاني، كان له الدور الأكبر في إزاحة القضية الفلسطينية من موقعها على رأس سلم الأولويات العربية. وانتشار القصص الخرافية عن كرامات المجاهدين الأفغان وما صاحبها من تعريض بالفلسطينيين الذين كانوا يحاربون من أجل الأرض لا من أجل الله كما روّجت لذلك أدبيات المناصرين للمشروع المتطرف في أفغانستان، ساهمت مساهمة عظيمة في النظر إلى إسرائيل باعتبارها عدوا يجب تأجيل التفكير في مواجهته حتى الانتهاء من حسم المواجهة مع العدوين الأكثر خطرا: الاتحاد السوفييتي حامي حمى الإلحاد، وإيران ذات المشروع الرجعي. الآن وبعد كل ما تلا تلك المرحلة، فإن العرب مازالوا بدون بوصلة. لماذا..؟ لأنهم انشغلوا بالصراعات الطائفية والمذهبية على حساب القضية الأم، وهو ما لم يكن ليحدث لولا وجود أزمة حقيقية على صعيد الهوية تسببت بها حالة الفراغ السياسي والاستراتيجي التي تعاني منها الأمة. المشروع القومي هو الحل، والحفاظ على مشاعر العداء لإسرائيل ضرورة لحسم أزمة الهوية.