التعليم تسلط الضوء على تمكين الموهوبين في المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع    إسرائيل تستبق وقف النار.. اغتيالات وغارات عنيفة    تنفيذ 248 زيارة ميدانية على المباني تحت الإنشاء بالظهران    أمانة الشرقية : تطرح فرصة استثمارية لإنشاء مركز صحي لعلاج حالات التوحد والرعاية الفائقة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    بوريل يطالب إسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    فصل التوائم.. أطفال سفراء    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    من أجل خير البشرية    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    المملكة تستضيف المعرض الدوائي العالمي    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية شرعية في تحديد جنس الجنين (1-2)
نشر في المدينة يوم 20 - 01 - 2012

المقصود بتحديد جنس الجنين هو ما يقوم به الإنسان من الأعمال، والإجراءات التي يهدف من خلالها اختيار ذكورة الجنين أو أنوثته.
وبهذا التعريف لعملية تحديد جنس الجنين يتبين أنها ليست قضية حادثة، بل هي مسألة تضرب بجذورها في القدم. وقد أشغلتِ الناس منذ سالف الزمن فطلبوا لإدراكها السبل. ففي سنة خمسمائة قبل الميلاد توصلت مدارس الطب الهندية إلى أنه يمكن التأثير على جنس الجنين في بعض الحالات بفعل الطعام أو العقاقير كما ذكر بعض المؤرخين. كما ذكروا أيضًا أن علماء الطبيعة كأرسطو قد تناولوا قضية تحديد جنس الجنين بالمناقشة في القرن الثاني الميلادي، حيث ناقش أرسطو النظرية التي تقول: إن جنس الجنين تُعَيّنه حرارة الرحم أو تغلُّب أحد عنصري التكاثر على العنصر الآخر. وقدم نظرية أخرى في تفسير ذلك.
ومن هذا يتبين أن الجديد في قضية تحديد جنس الجنين إنما هو فيما طرأ من تقدم في الوسائل والطرق التي من خلالها يمكن تحديد جنس الجنين سواء أكان ذكرًا أم أنثى.
وقبل النظر في الوسائل والطرق التي تستعمل في تحديد جنس الجنين وأحكامها نحتاج إلى بيان الأصل في تحديد جنس الجنين.
ويمكن القول: إن لأهل العلم في تحديد جنس الجنين قولين في الجملة:
القول الأول: أن الأصل في العمل على تحديد جنس الجنين الجواز. وأنه لا مانع منه شرعًا. ومن أبرز الفقهاء القائلين بهذا شيخنا عبد الله البسام، والشيخ مصطفى الزرقا، والدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ عبدالله بن بيِّة، والشيخ نصر فريد، والدكتور علي جمعة، وغيرهم.
وقد قال بهذا مجلس الإفتاء بالأردن، ولجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية.
القول الثاني: أن العمل على تحديد جنس الجنين لا يجوز. ومن أبرز من قال بذلك الدكتور محمد النتشة، والدكتور عبدالناصر أبو البصل، والشيخ فيصل مولوي.
وهو ما يفهم من فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية. حيث جاء في فتوًى للجنة «شأن الأجنة من حيث إيجادهم في الأرحام وذكورتهم وأنوثتهم هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى».
أدلة القول الأول
يمكن أن يستدل للقول بأن الأصل جواز تحديد جنس الجنين بعدة أدلة منها:
الدليل الأول: أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل حتى يقوم دليل المنع والحظر؛ في قول جمهور أهل العلم؛ وليس لدى من قال بمنع العمل على تحديد جنس الجنين دليل يستند إليه. فيبقى الأصل محفوظًا مستصحبًا.
الدليل الثاني: أن طلب جنس معين في الولد لا محظور فيه شرعًا. فالله تعالى قد أقرَّ بعض أنبيائه الذين سألوه في دعائهم أن يهب لهم ذكورًا من الولد. فهذا نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل الله تعالى أن يرزقه ولدًا ذكرًا صالحًا، فأجابه الله تعالى. قال تعالى فيما قصَّه عن إبراهيم: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾. وكذلك نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام دعا ربه أن يهبه غلامًا زكيًا، فقال الله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾. ولو كان هذا الدعاء سؤالًا لمحرم لكان محرمًا ولمنعه الله تعالى ولما أقرَّه؛ فإن الدعاء بالمحرم محرم. فلما جاز الدعاء بطلب جنس معين في الولد، وهو سبب من الأسباب التي تُدرك بها المطالب -دل ذلك على أن الأصل جواز العمل على تحديد جنس الجنين بالأسباب المباحة؛ لأن ما جاز سؤاله وطلبه جاز بذل السبب لتحصيله.
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن السبب الطبيعي الذي يُوجِب الإذكار أو الإيناث بإذن الله. ففي صحيح الإمام مسلم من حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب اليهودي الذي سأله عن الولد. فقال صلى الله عليه وسلم: «ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا مَنِيُّ الرجل مَنِيَّ المرأة أذْكرا بإذن الله. وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله». وهذا يفيد أن الإذكار والإيناث في الجنين أمرٌ يستند إلى سبب طبيعي معلوم. وليس في الحديث ما يشعر بأنه مما استأثر الله به. بل هو كسائر الأسباب الطبيعية التي متى قدر الخلق على إيجادها فقد أدركوا المقدمة التي يمكن أن يصلوا بها إلى النتيجة.
وقد نوقش هذا الدليل من جهتين:
الأولى: عدم صحة لفظ حديث ثوبان قال ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وسمعت شيخنا رحمه الله يقول في صحة هذا اللفظ نظر. قلت: لأن المعروف المحفوظ في ذلك إنما هو تأثير سبق الماء في الشبه». وقال: «هذا الحديث تفرد به مسلم في صحيحه. وقد تكلم فيه بعضهم. وقال: الظاهر أن الحديث وَهِمَ فيه بعض الرواة، وإنما كان السؤال عن الشبه، وهو الذي سأله عنه عبدالله بن سلام في الحديث المتفق على صحته. فأجابه بسبق الماء، فإن الشبه يكون للسابق، فلعل بعض الرواة انقلب عليه شبه الولد بالمرأة بكونه أنثى وشبهه بالوالد بكونه ذكرًا».
وأجيب على هذا بأن «الحديث صحيح لا مطعن في سنده، ولا منافاة بينه وبين حديث عبدالله بن سلام. وليست الواقعة واحدة، بل هما قضيتان. ورواية كل منهما غير رواية الأخرى».
الثانية: أن الإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، بل هو مستند إلى مشيئة الخالق سبحانه. فقد ردَّ الله تعالى ذلك إلى محض مشيئته، فقال: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾. ويشهد لهذا ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مراحل خلق الإنسان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان ما يقوله المَلَك عند الخلق: قال: يا رب أذكر أم أنثى، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك». قال ابن القيم: «فكون الولد ذكرًا أو أنثى مستند إلى تقدير الخلاق العليم كالشقاوة والسعادة والرزق والأجل».. ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم «أحال بالاذكار والإيناث على مجرد المشيئة، وقرنه بما لاتأثير للطبيعة فيه من الشقاوة والسعادة والرزق والأجل. ولم يتعرض المَلَك لكتابة الذي للطبيعة فيه مدخل».. «فإذا كان للطبيعة تأثيرٌ في الإذكار والإيناث، فلها تأثيرٌ في الرزق والأجل، والشقاوة والسعادة، وإلا فلا؛ إذ مخرج الجميع ما يوحيه الله إلى الملك»..
وأجيب على ذلك بما يأتي:
الأول: أن «استناد الإذكار والإيناث إلى مشيئته سبحانه لا ينافي حصول السبب، وكونهما بسبب لا ينافي استنادهما إلى المشيئة».. فالأسباب التي قضى الله تعالى أن تكون سببًا لمسبباتها لا تخرج عن تدبيره ومشيئته، فالأسباب «طوع المشيئة والإرادة ومحل جريان حكمها عليها. فيقوِّي سبحانه بعضها ببعض، ويبطل إن شاء بعضها ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته ويعريها منها، ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه»..
الثاني: أن من تكلموا فيما تضمنه حديث ثوبان من سبب الإذكار والإيناث لا يناقشون في أصل سببيتهما. ولكنهم يمنعون قول الطبائعيين الذين يجعلون للطبيعة تأثيرًا مستقلًا في الإيجاد والخلق. ويقولون: «نحن لا ننكر أن لذلك أسبابًا أخر. ولكن تلك من الأسباب التي استأثر الله بها دون البشر».. فمناقشتهم في تعيين السبب لا في أصله. وليس في النصوص ما يدل على امتناع إدراك ذلك على البشر.
الثالث: أن ما ذكر من اقتران الإذكار والإيناث بما لا تأثير للأسباب فيه كالشقاوة والسعادة والرزق والأجل دليل على أنهما لا يستندان إلا إلى مجرد المشيئة - فهذا غير مسلم لوجهين:
1) أن دلالة الاقتران على الاتفاق في الحكم والتساوي ضعيفة في قول أكثر الأصوليين.. فاقتران ما له سبب كالإذكار والإيناث بما ليس له سبب كالشقاوة والسعادة لا يفيد الاتفاق والمساواة في عدم السببية.
2) أن السعادة والشقاوة والرزق والأجل كلها بأسباب.. وكون أسباب هذه الأمور لا تكون إلا بعد الولادة. لا يلزم منه استواء جميع المذكورات في وقت السبب وزمنه. فالسعادة والشقاوة والرزق والأجل لا تكون إلا بعد الولادة بخلاف الإذكار والإيناث فإنهما يكونان قبلًا؛ لذلك تقدم زمن ما قدره الله من أسبابهما.
الدليل الرابع: قياس السعي في تحديد جنس الجنين على معالجة العقم الذي يمكن معالجته. فإنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز السعي في معالجة العقم مع كونها سعيًا في إيجاد الحمل وأخذًا لأسباب حصوله. وليس فيه معارضة لقول الله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾.. فجواز أخذ أسباب تحديد جنس الجنين من باب أولى؛ لأنه عمل بالأسباب الممكنة لإدراك صفة في الجنين، وهو أسهل من أخذ أسباب الإيجاد والتكوين.
الدليل الخامس: قياس السعي في تحديد جنس الجنين على جواز العزل. ووجهه أن العزل سبب يبذله الإنسان لمنع الحمل وضبط حصوله يشابهه في المعنى ضبط جنس الجنين..
ويجاب عن هذا بأن القياس إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة وتشابه بيَّن بينهما، وليس هذا ظاهرًا بينهما، كما أن العزل اختلف أهل العلم في حكمه بين مانع ومبيح، فهو قياس على مختلَف فيه، ومن شروط صحة القياس الاتفاق على حكم الأصل..
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أن العمل على تحديد جنس الجنين يتضمن منازعة الله تعالى في خلقه ومشيئته وما اخْتَص به من علم ما في الأرحام، قال الله تعالى:﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.. قال جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود وقتادة وغيرهما: ذكورًا وإناثًا.. وقال أيضًا: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ ﴾.، وقال أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ﴾.. فقد ذكر جماعة من المفسرين في معنى الآية أنه لا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرًا أو أنثى أأحمر أو أسود.. فالله تعالى «خصَّ نفسه بالعلم بالأرحام في هذا الموضع إعلامًا لنا أن أحدًا غيره لا يعلم ذلك، وأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله».. ويشده لذلك أن الملَك إذا جاء لنفخ الروح يقول: «يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملَك»..
وأجيب على ذلك بما يأتي:
الأول: أن أَخْذَ العبد بالأسباب التي جعلها الله تعالى وسيلة لإدراك مسبباتها سواء أكان ذلك في تحديد جنس الجنين أم في غيره لا يتضمن منازعة لله تعالى في خلقه ومشيئته وتصويره. وذلك أن كل ما يكون من العبد لا يخرج عن تقدير الله ومشيئته وخلقه كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾.، وكما قال: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾.. والإيمان بهذا لا يلغي مشيئة العبد وعمله كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة، فالنصوص دالة على إثبات مشيئة العباد وفعلهم.. وبهذا يتبين أن العمل على تحديد جنس الجنين لا يتضمن منازعة للرب جل جلاله في مشيئته وخلقه وتصويره. ويوضح هذا ويجليه أن الأسباب لا تستقل بالتأثير، بل هي مفتقرة لأمر الله تعالى، فتأثيره يكون بتقدير الله تعالى، فلو شاء لسلبها قواها فلم تؤثر شيئًا.. «وليس شيء من الأسباب مستقلًا بالفعل، بل هو محتاج إلى أسباب أخرَ تعاونه، وإلى دفع موانع تعارضه ولا تستقل إلا مشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله كان وإن لم يشأ العباد وما لم يشأ لم يكن ولو شاء العباد»..
الثاني: أن العمل على تحديد جنس الجنين لا ينافي اختصاص الله تعالى بعلم ما في الأرحام. ويتبين هذا بما يلي:
1. أن العمل على تحديد جنس الجنين لا يعدو كونه أخذًا بسبب من الأسباب لإدراك غاية قد تحصل وقد لا تحصل كسائر أسباب المطالب والمرغوبات. فالوطء الذي هو سبب الحمل عمل يقوم به الزوجان لتحصيل الولد قد ينتج عنه الحمل وقد لا ينتج. فليس في ذلك ما ينفي اختصاص الله تعالى بعلم ما في الأرحام.
2. أنه في حال حصول النتيجة المطلوبة بتحديد جنس الجنين ليس في ذلك ما ينافي ما ذكره الله تعالى من اختصاص علمه بما في الأرحام، فإن الذي اختص به الله تعالى، هو العلم السابق للوجود، وكذا العلم التام بما في أرحام ذوات الأرحام من كل وجه، وكذا العلم بما يكون من حالهم وعملهم ومآلهم. فعلم جنس الجنين لا ينافي ذلك ولا يعارضه؛ لأن الله تعالى يُظْهِرُ عليه بعض خلقه إما بالإعلام؛ وإما بالتجربة والخبرة؛ وإما بغير ذلك من الوسائل والأسباب، وهو قطرة في بحر. وبيان ذلك أن جنس ما في أرحام إناث بني آدم يُعْلِمُ اللهُ تعالى به الملكَ الموكل بالرحم كما دلت على ذلك الأحاديث.. ومن أشهرها حديث ابن مسعود رضي الله عنه في بيان مراحل خلق الإنسان، ففيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الملك الموكل بالجنين عند خلقه: «قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك».. وكذا حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكًا يقول: يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة. فإذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه».. كما أن علم جنس ما في أرحام إناث بني آدم ثبت أنه يمكن أن يكون بغير ذلك كالفراسة؛ والرؤيا وغيرهما. ومن شواهد ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه علم ما في بطن زوجته قبل وضعه؛ حيث قال لعائشة رضي الله عنها في مرض موته في قصة هبته إياها عشرين وسقًا من ماله بالغابة: «إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا. فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك. وإنما هو اليوم مال وارث. وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله. قالت عائشة: فقلت: يا أبت، إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو. في بطن بنت خارجة أُراها جارية».. قال القرافي معلقًا على ذلك في بيان عدم معارضته للآية: «الذي اختص به الله تعالى هو علم هذه بغير سبب محصل للعلم والصدِّيق رضي الله عنه قيل علم ذلك بسبب منام رآه فلا تناقض».. وهذا الخبر عن الصديق يصلح شاهدًا لجواز بحث الإنسان في جنس الجنين. قال السرخسي معلقًا على هذه القصة: « وفيه دليل أن الحمل من جملة الورثة، وأنه لا بأس للإنسان أن يتكلم بمثل هذا بطريق الفراسة. فإن أبا بكر رضي الله عنه قال ذلك بفراسته، ولم يكن ذلك منه رجمًا بالغيب. فإن ما في الرحم لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى كما قال الله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾..
الدليل الثاني: أن العمل على تحديد جنس الجنين ضرب من ضروب تغيير خلق الله تعالى الذي هو من عمل الشيطان كما دل عليه قوله تعالى:﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾.. وكذلك ما رواه الشيخان. من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى مالي لا ألعن من لعن النبي صلى الله عليه وسلم». فإذا كان التغيير في صورة الخلقة على النحو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا فكيف بالتغيير في الجنس؟ لاشك أنه أحق بالتحريم وأولى بالمنع.
ويجاب على هذا بعدم التسليم، وذلك أن تحديد جنس الجنين لا يدخل في تغيير خلق الله تعالى؛ وبيان ذلك أن جميع إجراءات عملية تحديد جنس الجنين في جميع صورها تكون قبل تكوُّن الجنين وتخلقه، فلا تغيير فيها.
أدلة القول الثالث:
أن القول بجواز العمل على تحديد جنس الجنين يفضي إلى عدة مفاسد ومخاطر منها:
1. الإخلال بالتوازن الطبعي البشري في نسب الجنسين الذي أجراه الله تعالى في الكون لحكمة ورحمة. فإن كثيرًا من الناس قد يميل إلى جنس الذكور في المواليد لذلك «حذر خبراء في مجال الأخلاقيات من مخاطر وقوع اختلال سكاني بسبب هذه الطريقة فضلا عن تجاوزات تسمح باختيار مميزات الأطفال الجسدية. ففي الصين والهند حيث يفضل الأهل إنجاب الذكور أدى إجهاض الأجنة الأنثى وحتى قتل الأطفال إلى نقص في الفتيات».. ويعزز هذا ما جاء في تقرير اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة حول كوريا «وما يثير القلق إلى حد كبير هو ممارسة تعيين جنس الجنين، والازدياد غير المتناسب في نسبة البنين إلى البنات»..
2. فتح المجال أمام العبث العلمي في خلق الإنسان وتكوينه، وهو أمر اتفق الناس على خطورته وشؤم عاقبته على البشرية.
3. ما يمكن أن يقع من جراء بعض الطرق في عملية تحديد جنس الجنين من اختلاط الأنساب، وهذا من المفاسد الكبرى الناتجة عن هذه العملية..
4. هتك العورات بكشفها وعدم حفظها، وذلك أن من طرق تحديد جنس الجنين ما يتطلب كشف المرأة عن العورة المغلظة.
ويجاب على هذا إجمالًا بأن وجود المفاسد في عمل معين، وأمر ما لا يلزم منه منعه شرعًا إلا في حال كون المفاسد غالبة والمصالح منغمرة كما دلت على ذلك قواعد الشريعة ونصوصها.. لذا وجبت الموازنة بين المفاسد والمصالح في قضية تحديد جنس الجنين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.