الاستراتيجيات والمبادئ التي قامت عليها القاعدة لا يمكن أن يكتب لها النجاح ، ولا تكتسب القاعدة جماهيرها إلّا حيث اجتمع الجهل بالدين الحنيف وتعاليمه السمحة إلى جانب أمراض مجتمعية مستعصية كالتخلف والفقر والظلم، ولكن التغير الحاصل في الخريطة السياسية والثقافية إنّما هو نتاج تطور ارتقائي في الوعي والإدراك الشعبي وهذا يتناقض مع الانحراف الفكري الذي تحمله القاعدة وبالتالي فإن دخول القاعدة مرحلة الإرباك هو أقل ما قد يصيبها، واستغلال القاعدة لمبدأ الحريات والانفتاح السياسي والثقافي لا يعطي المجال أمام الفوضى الثقافية أو نشر ثقافة الإرهاب، فالحريات لها ضوابط إن لم نقل قيودا، وبالتالي فإن الانفتاح السياسي وإطلاق الحريات لن يعطي أية فرصة لتنظيم القاعدة حتى ينشر أفكاره بل على العكس تماما فإنه سيجفف القواعد الجماهيرية المهيأة للانحرافات الفكرية والتي يمكن أن تستغلها القاعدة في ظل الانغلاق السياسي والأجواء القمعية، معتبرًا أنّ القاعدة ليست مهيأة للعمل المؤسساتي العلني ولن تكون كذلك فإن هي تراجعت عن أفكار وطورت أخرى فحينها يكون الحديث عن تنظيم آخر لا يمت لتنظيم القاعدة الذي عرفناه بأي صلة. إن أمريكا الأمس ليست أمريكا اليوم، وكذلك الوطن العربي، فالولايات المتحدةالأمريكية لم يعد بإمكانها تنفيذ رغباتها ورسم سياساتها في المنطقة كما هو الحال في القرن الماضي أو بدايات القرن الحالي، وتظل فكرة تقسيم البلاد العربية مجرد نظرية يصعب تطبيقها وهذا لا ينفي وجود جيوب أو مناطق أقليات في بعض البلاد العربية تحاول خلق واقع جديد بدعم خارجي ليس بالضرورة أن يكون غربيًا، مشيرًا إلى أنّ إمكانية استغلال تنظيم القاعدة لأجواء تسود فيها الفوضى ويغيب فيها الأمن يعدّ أمرًا ممكنًا ولكن ليس ضد دولة الاحتلال «إسرائيل» وإنما ضد الأنظمة العربية والأحزاب الأخرى، فتنظيم القاعدة لا يبحث عن فرصة للاشتباك مع «إسرائيل» لأنّه ومنذ إعلانه عن تشكيل «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» عام 1998م لم يطلق رصاصة واحدة تجاه أي هدف إسرائيلي بل على العكس فقد شهدت عواصم عربية ومدنا عربية كثيرة مجازر نفذها تنظيم القاعدة، وذلك لأنّ القاعدة لم تتخل عن مبدأ «العدو القريب أولى من العدو البعيد»، فانحراف القاعدة الفكري يسمح باستهداف المسلمين الآمنين ولا يفضل مقاومة الاحتلال الصهيوني لأنّه يعتقد كما جاء على لسان أيمن الظواهري بأنّ تحرير القدس لا يفيد إلا بإسقاط الأنظمة العربية التي وصفها ب» الكافرة»، ومع ذلك فإنّه من غير المستبعد أن توجه القاعدة سلاحها نحو إسرائيل منعًا لاندثار التنظيم. والثورة في أي بلد تبدأ بالاحتجاجات السلمية وليس بالمطالبة بإسقاط النظام القائم، فمطالب المحتجين تكون ذات سقف منخفض ومتواضع، ما بين تحسين الظروف المعيشية وما بين تعديلات في الدستور وإلى غير ذلك من مطالب عادلة، إلّا أنّ التعامل الخاطئ مع الاحتجاجات يرفع سقفها إلى حده الأقصى وهو «إسقاط النظام»، ويحولها إلى ثورة، سلمية أو عنيفة تبعًا للأسلوب المستخدم في قمع الجماهير، فالشعوب العربية متسامحة ووسطية وإن أجبرتها الظروف أحيانًا على انتهاج أساليب عنيفة في التغيير، فالجماعات الإسلامية المشاركة في الانتخابات بدت معتدلة من خلال تصريحات قادتها التي وصلت أحيانًا إلى حد «التفريط» أملًا في كسب قلوب الناخبين، ومن هنا فإنّ القصد أنّه لا مكان للأفكار المتطرفة ولا رصيد للجماعات الإرهابية عند الشعوب العربية، والثورة العربية أثبتت أنّ شعبية القاعدة لا تكاد تذكر، وهنا نؤكد أنّه إذا ما أتيح للثورة العربية أن تخلق أنظمة عادلة معتدلة سواء بالتغيير أو بالتأثير تحترم الشعوب وخياراتها وتعطيهم الفرصة لينعموا بديمقراطية حقيقية، فإنّ بقايا القاعدة سوف تختفي، ولكن إن تمّ الانقلاب على أهداف الثورة العربية وخيارات الشعب في أي بلد كان بفعل الضغوط الأمريكية أو الغربية كما هو الحال في بعض الدول العربية، فإنّ ذلك سيكون بعثًا جديدًا لتنظيم القاعدة وكل التنظيمات التكفيرية. *كاتب ومحلل سياسي