في العادة تتطلب البدايات لأي مؤسسة المزيدَ من عمليات الضبط والمتابعة، وتتطلب بعض الكفاءات التي تقوم بهذه المهمة حتى تستقر أمورها، ومن ثَّم تخف عملية الضبط تدريجيًّا ويتم استبدال وسائل جديدة للمتابعة بالوسائل القديمة التي لم تعد مجدية في عصر التغير المستمر والتطور المذهل للتقنيات الحديثة. ومن المعلوم أن المهمة الأولى لما كان يسمى ب(التفتيش) في وزارة المعارف رقابيةٌ بالدرجة الأولى، وإن كانت تتدثر بالجانب (الفني) المنصبِّ على المعلم توجيهًا وتقويمًا وقياسًا لأثره في طلابه. وعندما أقول رقابية فهذا تأتَّى كون التعليم النظامي –وقتها- لا يزال في بداياته مما يستوجب المزيد من الرقابة والمتابعة، إضافة لما سبق فشُحُّ وسائل المواصلات ورداءة الطرق وضعف وسائل الاتصال، هذه جميعها جعلت التفتيش يركز على عمليتَي الرقابة والمتابعة في المقام الأول، ثم تأتي الناحية الفنية في المقام الثاني كون المفتش –حسب المفترض- أوسع ثقافة وأغزر علمًا وأكثر خبرة ودراية بالمادة العلمية وطرائق تدريسها. ثم وُلِد (التوجيه) واستُبدل ب(التفتيش) كنوع من التلطيف لعملية (التفتيش) التي كان لها وقعها (غير الجيد) على المعلمين، ثم أُضيف له مسمى (التربوي) كونه يركز على النواحي التربوية ممثلة في الجوانب الإنسانية بالإضافة للمقررات الدراسية والاختبارات، أكثر من تركيزه على قضيتَي الرقابة والمتابعة. ومع هذا فقد ركَّز (التوجيه) على النواحي الفنية لدى المعلمين في المقام الأول، وهي التي كانت تالية للرقابة والمتابعة زمن (التفتيش). ثم وُلِد (الإشراف التربوي) بصفته (أشمل وأعم) من التوجيه التربوي، وفيه تصبح مهام المشرف كما يردد بعض مُنظري الإشراف (من الخزان إلى الخزان) أي أن المشرف مسؤول عن المدرسة -طوال اليوم الدراسي- من أعلى نقطة فيها وهي خزان المياه العلوي إلى أدنى نقطة فيها وهي خزان المياه الأرضي! بمعنى أن العملية الفنية -التي هي من صلب مهام المشرف- أصبحت جزءًا من أجزاء عديدة مطلوب من المشرف القيام بها أثناء اليوم الدراسي. وعلى رأي المثل «سبع صنايع والبخت ضايع» وهو ما يجسد حال المشرف التربوي اليوم الذي كثُرت مهامه فقلَّت فاعليته. ومؤخرًا وبحسب صحيفة الوطن (16/10/2011م) فإن وزارة التربية والتعليم تعكف على «تقليل الإشراف التربوي للمدارس بمفهوم الزيارات من خارج المدرسة وإحلال مشروع قائد المدرسة المشرف المقيم». وفي الخبر أن وكيل الوزارة للتخطيط والتطوير الدكتور نايف الرومي انتقد أسلوب الإشراف المعمول به سابقًا وقال: «لا يوجد في بلدان العالم مثل هذا النموذج، فالمعروف أن مدير المدرسة هو الذي يتولى الإشراف على مدرسته، وهو المسؤول الأول والأخير عنها». مؤكدًا في الوقت نفسه «سعي الوزارة للاستفادة من المشرف التربوي المتميز (كخبير تربوي) بإدارات التربية والتعليم يستدعى عند الحاجة إليه». ومما يؤكد قناعة الوزارة بقلة فاعلية الإشراف التربوي أن المشرف لم يعد بيده درجات لتقييم المعلم؛ حيث عُهِد بها لمدير المدرسة، ومما يزيد وجاهة سعي الوزارة لتقليل الإشراف التربوي، أن المشرف لم يعد المصدر الرئيس للمعرفة، ولم يعد الوحيد الملم بطرائق التدريس وأساليب التقويم، فمع التدفق الهائل للمعرفة أصبح المشرف والمعلم متساوين في الحصيلة المعرفية والأساليب التربوية وطرائق التدريس، بل -أحيانًا- قد يتفوق المعلم. أضف إلى ذلك أن مهام المشرفين انصرفت إلى أعمال التنسيق، والإشراف على المسابقات، ورعاية حفلات التوديع والتكريم، وهذه أتت نتيجة انعدام الفوارق الفنية بين المشرف والمعلم، مما ألجأ المشرف لممارسة تلك المهام. وبناء على المعطيات السابقة فإن الوقت قد حان للانتقال لمرحلة جديدة من الإشراف تختلف عن سابقتها، بحيث يكون (لمدير المدرسة والمعلم الأول) الدور الكامل في عملية الإشراف على المعلمين؛ كونهما المُلازمَين للمعلمِين طوال اليوم الدراسي، وكونهما الأقرب والأقدر على الحكم الحقيقي عليهم، وبالتالي يُقلَّص الإشراف للحدود الدنيا، وتصبح القلة القليلة المتبقية من المشرفين - كما ذكر الرومي- ضمن كادر إدارات التعليم يُستدعون عند الحاجة، وتعود الأكثرية إلى الميدان؛ للاستفادة من خبراتها وتجاربها؛ ولتقليل الهدر في المعلمين الذين توزعوا على جبهات عديدة منها الإشراف التربوي وإخوته المذكورين في مقال لي سابق تحت عنوان (التعليم.. وظيفة خارج نطاق الممارسة).