البحث عن أسباب المشكلة وتشخيصها ومعرفة نشأتها والعوامل التي ساعدت على ظهورها، هو البداية الصحيحة لمعرفة الحل وتحديد العلاج للقضاء عليها برمتها، وإلا ستبقى المشكلة ويبقى علاجها مجرد عمل عشوائي نتائجه ربما تكون عكسية وليست نافعة. فالطبيب الماهر لا يصف العلاج قبل معرفة المرض وتشخيصه وتحديد أسبابه والعوامل التي نتج عنها، ليتمكن الطبيب من وضع الكيفية للعلاج الناجع وتحديد الدواء النافع. وبالقياس عليه فإن من يتعرض لحل مشكلة اجتماعية مثلًا فإنه من الواجب عليه حتمًا أن لا يتوقف عند ذكر المشكلة وحسب، دون أن يمحص في أسبابها ويطرح الحلول الممكنة لها، لأن مجرد الحديث عنها لا ينم عن نظرة صحيحة، فكل إنسان قادر على الإفصاح والتشكي من مشكلة أو ظاهرة معينة، بل إن المجانين هم أكثر الناس انتقادًا لتصرفات الآخرين والظواهر الاجتماعية، ولكنهم لا يستطيعون تحديد المشاكل وطرح الحلول لها، لكن من يدقق في أسبابها ويحدد علاجها هم العقلاء وأصحاب الفكر فهم يبحثون أولًا عن أسبابها وتمحيصها وتشريحها، ومعرفة ظروف نشأتها ولماذا تفاقمت؟! فيسهل من ثم معرفة الحلول، ومدى إمكانية تطبيق تلك الحلول، واستشراف نتائجها الإيجابية أو آثارها السلبية، والوقوف على مدى تكلفتها المالية، وهامش العوائد والقيمة الإضافية الناتجة عنها، ثم وضع مقارنة وموازنة بين السلبيات والإيجابيات بصفة عامة، وأخيرًا يقدم على ذلك الحل أو يتركه ويطرح بديلًا عنه أليق وأقرب للتطبيق. ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن بعض الكتاب في كثير من مقالاتهم وأطروحاتهم يشيرون إلى مشكلة تخلف وتأخر مجتمعنا عن ركب الحضارة، وعدم التطور للحاق بقطار النهضة والاصطفاف مع الأمم المتقدمة، ثم يطالبون بالإسراع نحو التقدم وإطلاق أشرعة الإبحار في طريق الحضارة، غير أنهم يكتفون بهذا القول ويدندنون حوله، وهي شنشنة نعرفها من أخزم. فالهدف الذي يريدون الوصول إليه ليس كما يعلنونه بل هو هدف يأتي في إطار الاستجابة لمطالبات ودعوات غربية، فيحاولون تغليف مطالبتهم الخفية بغلاف ظاهره تحقيق المصلحة العامة وباطنة فيه النيل من الثوابت الدينية والاجتماعية والمبادئ القيم الأخلاقية والانسلاخ عنها، فيفعلون ذلك حتى تكون مطالبتهم مستساغة مقبولة، فليس هناك إنسان عاقل في هذه البلاد لا يتمنى التطور الصناعي والتقني لبلاده مع الحفاظ على قيمه وأخلاقياته وعدم النيل من عقيدته وديانته. ولهذا يحاولون تحت هذه الذريعة القيام بطرح مشروعهم، فهم لا يتوانون عن السخرية بحال المواطنين وما يقومون به من أفعال، ويستهزئون بالمورثات التي عرفها الآباء والأجداد وتتفق مع مكارم الأخلاق، ولكنهم لا يريدون هذه الموروثات ويحاولون سلخ المجتمع عنها والزج بهم في سلوكيات وتصرفات غربية، يرون أنها هي التي تصل بهم إلى الحضارة والتقدم، وهي في حقيقتها لا تمت للتقدم الصناعي والتقني بصلة. ونجد أن كثيرا من هؤلاء الكتاب يطلقون القول في نقد المجتمع وأهله وسلوكياتهم وتصرفاتهم بشكل عام دون أن يبينوا أوجه القصور والنقص الذي أدى بالمجتمع إلى هذا التخلف الذي يرونه. فيعممون الأحكام ويجملون القول في السخرية والاستهزاء بكل ماله صلة بالقديم حتى ولو كان ذلك القديم هو كتاب الله الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وحتى يستثنوا أنفسهم من هذه الأحكام فإنهم يدعون وسطيتهم واعتدالهم وأنهم يقبلون التعايش مع الآخر والانفتاح دون أن يحددوا ما إذا كان ذلك التعايش والانفتاح يتفق مع الشرع أو يخالفه، فإذا أنبرى لهم من يبين خطلهم وسوء منهجهم رموه بأقذع الصفات ورموه بشتى المذمات وأطلقوا عليه أنه متخلف من فئة الحرس القديم التي تحارب التقدم وتعيق الثقافة والاندماج مع الآخر. ثم أنهم لا يشيرون إلى الحلول التي يمكن أن يصل المجتمع بموجبها إلى الحضارة، بل كل ما في أجندتهم وما يحتويه مشروعهم وتزخر به بضاعتهم هو انتقاد المجتمع واتهامه بالقصور والتخلف وتشبثه بماله صلة بالقديم، وأنه مجتمع يرفض الآخر ولا يريد الانفتاح والتقدم، وهم مع ذلك لا يبينون ما هو التطور والتقدم المنشود، هل هو ما يتعلق بالصناعات الثقيلة والخفيفة، أو ما يتعلق بتحسين مخرجات التعليم. أو ما يتعلق بغلاء الأراضي والإيجارات والتلاعب بالأسعار إلى آخر القائمة التي تهم كل مواطن. كلا إنهم لا يشيرون إلى ذلك من قريب أو بعيد، ولم يحددوا أسباب هذا التخلف ولم يفصحوا عن العلاج تحديدًا، ولكنهم يحومون حول الحمى لتمرير مشروعهم ويدعون حبهم للوطن ورغبتهم في تقدمه ووصوله إلى الصفوف الأولى في ركب الحضارة العالمية، وهذه أمنية ورغبة لا شك أنها تراود كل مواطن، فالوطن هو الإنسان وبقدر قيمته تكون قيمة الإنسان ومن منا لا يريد أن تكون قيمته وقامته عالية وكبيرة. ومن باب التذكير لهؤلاء فإن الحل لأي مشكلة لا يكون حلًا مقنعًا وناجعًا إلا إذا استهدف تحديد المشكلة بعينها على وجه من الدقة، ثم عرف أسبابها ونشأتها وظروفها، ثم نظر بعد ذلك في علاجها وطرح حلولها الممكنة، ولهذا فإنه من مقتضيات الواجب عليهم دينيًا وأخلاقيًا أولًا ووطنيًا ثانيًا وسلوكيًا ثالثًا، أن يبينوا نوع المشكلة وطرق العلاج وماهية الحلول فليس هناك مجتمع إلا وله مشاكل تشكل جانبًا من جوانب التخلف والقصور، فليبنوا ذلك ويطرحوا الحلول وإلا فليصمتوا والصمت خير لهم خاصة وللوطن عامة. اللهم اجعل بلدنا هذا آمنًا وسائر بلاد المسلمين. [email protected]