تجنح الفنانة التشكيلية السعودية ليلى مال الله في أعمالها إلى الجمع بين الأصالة والمعاصرة، عاقدة علاقة بين الماضي والحاضر في نسق إبداعي ميزها بتناولها للبحر بمفرداته المختلفة، وتصويرها لتاريخ الأجداد القديم عبر لوحاتها الفنية.. هذه التجربة نقلتها مال الله مؤخرًا إلى بينالي القاهرة الذي استضافه بيت الشاعر ودار الأوبرا المصرية حيث لفتت الانتباه إليها بما قدمته من أعمال، فضلًا عن تفاعلها مع الثورة المصرية برسم جدارية أطلقت عليها مسمى «الإعصار».. حول هذه التجربة، ومحطات مسيرتها، ورؤيتها لواقع الحركة التشكيلية النسوية في المملكة، كان هذا الحوار.. تأثر بالمناخ * تجربتك الفنية تحمل كثيرًا من التموجات والتفاصيل.. هل يشي ذلك بأن لوحاتك مرت بمراحل مختلفة؟ بالرغم من مرور لوحتي بالفعل بعدد من المحطات والوقفات، وبالطبع أولها مرحلة التخطيط بالأبيض والأسود، ومنهما عرفت جمال الضوء والظل، وبعدها دخلت لعالم القيم اللونية وجمال الألوان والرسم بالمائي وشفافيته الرائعة، وقد أحببت منها ألوان الغواش من خامات المائي، ومنها انتقلت إلى دائرة الألوان، أو الدائرة اللونية كاملة؛ حيث رسمت الواقعي، ومنها انطلقت برسم تراث بلدي وهو عشقي المحبب، وجاء ذلك نتاج تأثري بالمناخ الذي عشت فيه طفولتي، حيث النخيل والبحر، وما زالت أصوات الأمواج في أذني أسمعها وهي تعزف الألحان، وعندما أنظر للبحر أشعر برغبتي للرسم، وكأن البحر عالمي وكأن أعماقه وأسراره هي ما يحمله فكري وقلبي من حب للألوان والرسم وأدواته، وما زالت أتعلم أبحث في داخلي عن جماليات اللون، ثم أعبر بفرشاتي. المحلية بوابة العالمية * من واقع ما تقولين.. هل ترين أن المحلية والنهل منها هو الطريق للعالمية؟ بالتأكيد؛ المحلية هي الطريق لأن تكون للمبدع خصوصية تفرض حضوره على الساحة في مجال إبداعه، فمن صنع عالمية نجيب محفوظ الكتابة عن الحارة المصرية وعن الجمالية وعن أدق التفاصيل في الحياة المصرية، هذا المكان الذي نقيم فيه معرضنا منطقة الحسين وبيت الشاعر والغورية كانت ملهمة لنجيب محفوظ وبالتالي حصل على نوبل، فهو لم يستعر حياة غير حياته، وأنا في أعمالي التشكيلية أنقل مشاركاتي في الخارجية تراث بلدي، وعرفت البلاد التي زرتها هوية بلدي وحضارتها من خلال أعمالي ومن خلال الحرف القديمة التي اندثرت كتجارة اللؤلؤ والبحارة الذين كانوا يقضون في البحر، وجسدت ذلك من خلال عملي «الغواصون»، وهي اللوحة المفضلة لدي، فمنها تفوح رائحة الماضي الجميل لما تحمله من معانٍ خالدة عن بلدي وعن مهنة قديمة اندثرت، وعن أجدادنا الذين عرفوا بتعلقهم بالبحر والغوص في أعماقه وارتباطهم الوثيق به، وبدلك أكون قد حاكيت واقعي وأصالة بلادي من البحر إلى الصحراء، ومنها تطرقت إلى موضوعات اجتماعية ركزت فيها على المرأة، لأنها نصف المجتمع ورمز من الرموز المهمة، ورسمتها بأجمل صورة وهي الأم، وتطرقت في أحد أعمالي إلى المدرسة الرمزية، وهي من المدارس الفنية المثيرة للجدل، وتفتح آفاقًا أرحب وأوسع للحوار بين العمل الفني والمتلقي، وهذه تجربة تفيد الفنان والمتلقي على حد سواء، فأنا أؤمن أن الحقيقة في الفن لا تأتي من الكتب أو القوانين أو حتى التعليم بل تأتي من الداخل، من التجربة الحية بالحب والتواصل الحي مع الأشياء والوجود، فبالفن تصبح الكلمة واللحن، وبالفن يصبح الشعر والنثر.. وأعود للقول إني ما زلت أبحث في عالم الفن الراقي عن كل جديد وجميل، وقد وصلت تجربتي للجرافيك، وهو فن الرسوم المطبوعة، ومعناه العام من قطع أو حفر أو معالجة الألواح الخشبية أو المعدنية، ولكن عملت على الطباعة على الشاشة الحريرية (سلك إسكرين) وهو عالم مختلف وجميل ومبدع. ند ومنافس * أشرت إلى تناولك للمرأة في أعمالك.. فهل هذا نابع من كون المرأة ما زالت تبحث عن ذاتها خاصة في منطقة الخليج؟ برغم ما كان يواجه المرأة من صعوبات؛ إلا أنها استطاعت أن تكون ندًّا قويًا وحاضرًا للرجل في المجال الفني، وربما تغلبت عليه أيضًا، بل استطاعت أن يكون لها حضورها في مختلف المجالات، وتسعى أن تحقق تقدمًا أكثر وأكثر. ولا شك أن أعمالي بها منحى خاص باتجاه المرأة، وموضوعها الشائك والواسع الذي يخص وجودها بكل مميزاته الواقعية والحسية، فالمرأة هي صندوق الأسرار الذي حين يفتح يبعث معه الأسئلة الوجودية على سعة الكون، وحين يشرق وجه المرأة تلمع الأسارير، وتتفتح الحياة على سعة أفقها.. التقلبات في أطوار المرأة تنعكس على الواقع بكل تجلياته وغموضه ومفاجآته، وعند الحديث عن المرأة باللوحات تتراقص وتضيء الألوان، ومن الممكن أن يتصاعد داخل مشهد اللوحة ظهور حدث ربما يتوقف، فعند اللحظة الفنية تتنفس الألوان على لوحتي كما تتنفس الكلمات عند الشاعر، فهي تتراقص وتتمايل. تجاوز العقبات * وفقًا لهذا التصور.. كيف تقيمين الحركة التشكيلية النسوية في المملكة؟ بالرغم من المعوقات التي كانت تحيط بالمرأة السعودية وعدم تقبل المجتمع من البداية لمساهمتها الفنية في الحركة التشكيلية، وصحيح أن مشاركتها جاءت متأخرة بسبب كل الظروف، لكن بالرغم من ذلك إلا أنها استطاعت أن تحفر اسم التشكيلية السعودية، وتثبت وجودها وقدراتها، وقد حققت منافسة دولية أثبتت فيها وجودها مثلها مثل كل المشاركات من الدول العربية، ومن ثم التعريف بإبداعاتها عالميًا، وبالفعل فإن المرأة لها دور جميل وفعال في الفنون التشكيلية، وبالرغم من وجود قدرات للتشكيليين الذكور والمنافسة القوية وتهميشًا لفنون المرأة فإنها أبت إلا أن تثبت جدارتها ومكانتها، وكان للمرأة ما تريد من حضور حيث استطاعت الفنانات أن يقمن بدور مهم ومجدٍ وعملن على تأسيس المراسم وإقامة الدورات الفنية التشكيلية، وتنمية مواهب الصغار والكبار، وبإقامة المراكز المهنية أيضًا التي وفرتها الحكومة، وبالتعاون معا أقيمت دورات في مختلف جوانب الفنون التشكيلية منها التصوير الزيتي بالنسبة للسيدات والمائي والرسم على القماش، وهذه الدورات تقام بصورة دورية منظمة خلال السنة، وخلال العطلات المدرسية للطلاب والطالبات في جميع المراحل، وهناك حرص أن تكون هناك مناهج مدروسة؛ حيث نبدأ بقلم الرصاص ثم الألوان ووضع اللمسات الأخيرة لكل عمل فني، ومما لا شك فيه أن الحركة النسوية بالمملكة أصبحت مهمة وبارزة على الصعيد المحلي والدولي، فالكثير من الفنانات يشاركن سنويًا في المحافل الدولية والعالمية. جدارية الإعصار * حملت مشاركتك في بينالي القاهرة بعدًا مهمًا.. هل ثمة علاقة لذلك بما تشهده مصر من تغيير؟ مشاركتي ببينالي القاهرة تجربة من نوع آخر، أو مشاركة متميزة إن صح التعبير، ففيها تعرفت على مصر الحضارة، وكنت قريبة من شعب حر قال كلمته وهو شعب يستحق أن يعيش، وكان البينالي رائعًا حيث شارك فيه 120 فنانًا وفنانة من مختلف الأرجاء، تعرفنا على بعضنا بنقل مختلف الأعمال الفنية المميزة، وأجمل ما فيه المكان الذي ترك أثرًا كبيرًا عندي، إنه بيت الشاعر في أقدم الأحياء، وفي شارع المعز هو من أروع وأجمل البيوت، ففيه علت صرخات الفنانين المشاركين في الثورة، ولكن الأكثر روعة كان لوجود الفنانة الفرنسية مونيك، وكانت هذه المشاركة التي لن أنساها أبدا لأنها في توقيت زمني مهم، وشاركت بعمل جدارية طولها متران وعرضها متر و38 سم وأسميتها «الإعصار». مشاركات عديدة * وماذا عن مشاركتك الأخرى محليًا ودوليًا؟ لي العديد من المشاركات الخارجية في كل من تونس والمغرب ومصر واليمن والنرويج، وكلها كانت جميلة وأضافت لي الكثير؛ حيث تبادل الخبرات والمعرفة، كلها محطات مهمة فيها الانتقال من عالم إلى آخر، كذلك لي مشاركات عديدة في بلدي في كل من القطيف والدمام والرياض وجدة والطائف، وقد حصلت على العديد من شهادات التقدير، وكذلك شاركت في مسابقة السفير، فضلًا عن مشاركتي في عدة ورش داخل وخارج المملكة، وكل ذلك ملخص لتجربتي، حيث علمتني كيف يصنع الإنسان علاقة حب بينه وبين أدوات عمله ليصل لمرحلة التفوق والإبداع، فقد عشقت الرسم والألوان منذ طفولتي عشقا تلقائيًا، لم أخطط له، ودائمًا وأبدًا نبحر في عالمه لأنه عالم جميل ومليء بكل جديد.