مساعي وتحركات عملية من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، في العمل على إقرار واعتماد لائحة الذمة المالية على موظفي الوزارات الحكومية، إذ تشير الهيئة إلى أنّ اللائحة في مراحلها النهائية، وسترفع قريبًا لمقام خادم الحرمين الشريفين، وتنصّ اللائحة على إدلاء الموظف وإقراراه بكل ما يملكه من ممتلكات لدى دخوله الخدمة الوظيفية على أن يكون التحديث كل 3 سنوات، وسيعهد للموظف بالأمانة والقسم في تسجيل المعلومات الخاصة به والممتلكات التي يملكها، كيف ينظر المفكرون والمحللون والشرعيون في السعودية إلى مثل هذه الخطوة وإمكانياتها في القضاء على أوجه الفساد المستشري أو تقليصه لدى الجهات الحكومية والخاصة، ولدى الموظفين سواء كانوا كبارًا أو صغارًا؟، وهل إقرار نظام "الذمة المالية" كاف للقضاء على الفساد المنتشر في مؤسسات الدولة، وضمان مجتمع قائم على النزاهة والمصداقية، إضافة إلى ذلك ما هي الوسائل والبرامج والخطط التي من شأنها تدعيم مثل هذه الخطوة، ومدى قدرة الهيئة الوطنية على محاربة الفساد المستشري لدى الكثير من الجهات الحكومية خصوصًا موظفي المرتبة العليا وأصحاب المناصب العليا، هل سيكون هناك شفافية واضحة في مثل هذا الجانب، تساؤلات طرحتها "الرسالة" على عدد من المفكرين والمحللين والشرعيين وكانت ضمن إطار التحقيق التالي. في البدء اعتبر المفكر الإسلامي عبدالرحمن الهرفي حديثه الخطوة غير عملية، وقال: الإنسان المرتشي والسارق سوف لن يجد حرجًا في أن يؤدي القسم أو الشهادة كذبًا وزورًا، أو أن يحلف يمينًا بأنّه لم يسرق أبدًا، مشيرًا إلى أنّ الدول المتقدمة كالدول الأوروبية لا تعمل بهذا النظام وإنّما لابدّ من تنمية مفهوم الرقابة الذاتية لدى المواطن، وفيما يخصّ أصحاب المناصب وكبار المسؤولين يجب معرفة كل ما لديه من ممتلكات وجردها بشكل دائم، أما الموظفين الصغار فإنّه يتم فرض عقوبات صارمة وشديدة على كل من يثبت لديه تجاوزات مالية مع ضمان توفير رواتب كافية ومحفزة للموظف العادي حتى لا يفكر إطلاقًا بالاختلاس أو التعدي على المال العام. وشكك الهرفي في جدوى نظام "الذمة المالية" الذي يتعهد الموظف من خلاله بالأمانة والقسم في تسجيل المعلومات الخاصة به والممتلكات التي يمتلكها قبل الدخول في الخدمة الوظيفية وقال: ليست هناك إشكالية لدى المختلس أو اللص في أن يحلف أو أن يقسم على عدم الاختلاس أو عدم القيام بأي من مظاهر الفساد المالي أو الإداري، واستشهد بورود كثير من الشكاوى من قبل تجار ورجال أعمال لأجل استفتائه في قضية جواز دفع رشاوى لمتنفذين في الأجهزة الحكومية حتى يتم تخليص بضائعهم من المنافذ الجوية والبرية والبحرية، وشدد على أهمية أن يكون لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد جدية واضحة في كبح مظاهر الفساد المالي والإداري لدى الجهات الحكومية والخاصة، وأضاف: من الضروري أن يكون للمباحث الإدارية وهيئة الرقابة والتحقيق دور كبير للمساهمة جنب إلى جنب مع الهيئة الوطنية لتعزيز جانب الرقابة المالية ومكافحة الفساد المنتشر في الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص. ضبط الموارد من جهته أشاد الخبير الاقتصادي وعضو مجلس الشورى السابق الدكتور عبدالله صادق دحلان نظام الذمة المالية قائلاً: كنا منذ فترة طويلة نطالب بمثل هذا النظام عندما كنت عضوًا في مجلس الشورى، لما له من أهمية في ضبط الموارد المالية سواء كان على الموظف التنفيذي أو القيادي، ومثل هذه الإجراءات معمول بها في الدول الأوروبية، والحاجة ملحة في السعودية أكثر من تلك الدول في تطبيق مثل هذه الأنظمة وذلك بسبب ارتفاع نسبة الفساد في السعودية إلى نسب عالية جدًا، وطالب في الوقت نفسه بإخراج القرارات والقوانين في مثل هذا المجال من حيز التنظير إلى حيز الممارسة الفعلية والعملية لأجل مكافحة الفساد المستشري سواء على الموظفين محدودي الدخل أو حتى على الموظفين أصحاب الدخل المرتفع، و الموظفين الكبار الذين لهم سلطة على المواطنين، واعتبر أنّ إصدار النظام والقوانين قد يكون سهلاً لكن تطبيقها هو الجانب الأصعب. القبول والمصداقية وطالب بتطبيق نظام "من أين لك هذا" الصادر منذ حوالي عشرين عامًا وظلّ حبيس الأدراج لسنوات طويلة، وكذلك نظام الملاءة المالية، إذ يجب أن تطبق هذه الأنظمة على كل مواطن ومسئول في الدولة ابتداء من الوزراء ووكلاء الوزراء والمدراء، أو مسؤول في المؤسسات والشركات الأهلية، وعلى أثر ذلك سيحظى نظام الذمة بالقبول والمصداقية لدى كافة فئات المجتمع، أكد على أهمية اعتبار نظام الذمة أساس يجبر جميع الموظفين من خلاله على الإدلاء بكافة ما لديهم من معلومات حول ممتلكاتهم وحصرها قبل الدخول في الخدمة الوظيفية، فإذا ثبت بعد حين عدم مصداقية المعلومات التي قدمها الموظف فإنّه لابد من معاقبته ضمن اللوائح الجزائية المعمول فيها، وكذلك إذا نمت أمواله وممتلكاته بشكل يتنافى مع دخله فهو أيضًا رهن المسائلة، وأشار إلى أهمية تطبيق نظام الثروات المتضخمة من غير مبرر والذي سيسهم في حصر وتقويض الأشخاص الذين تتضخم ثرواتهم بشكل سريع من غير مبرر ومسوغ واضح لذلك. وشدد دحلان على ضرورة تطبيق نظام الذمة المالية وبقوة على كافة فئات المجتمع ابتداء بالوزراء وانتهاء بطبقة العمال وأن لا يقتصر تطبيقه على أشخاص دون آخرين وذلك حتى يكسب النظام مصداقية وقبولاً لدى فئات المجتمع من دون تمييز أو حواجز اجتماعية. مطلب شرعي في السياق ذاته رحب الداعية الإسلامي الدكتور محمد موسى الشريف بتطبيق النظام على كافة فئات المجتمع واصفًا إياه بالأمر البالغ الأهمية، وأفصح عن موافقته التامة والمطلقة على إصدار القوانين والأنظمة قلبًا وقالبًا التي تحد من الفساد المستشري في المجتمع لأنّ الفساد يعدّ بحد ذاته باعث للأحقاد ومكافحته مطلب من مطالب الشريعة الإسلامية، وأضاف أنّ القرار لا يعدّ كافيًا لمكافحة الفساد، وطالب بالمزيد على مستوى الواقع، وذلك استناداً للقاعدة الفقهية القائلة "ما لا يدرك كله لا يترك جله"، فإنّه يفعل المقدور عليه، ولا يترك الكل بحجة عجزه عن بعضه، لأنّ إيجاد الشيء في بعض أفراده مع الإمكان أولى من عدم توفره بالكلية كلية، وأعرب عن اعتقاده في حاجة أهل الخبرة والدراية في مكافحة الفساد للاجتماع الدائم ضمن ورش عمل وندوات لمناقشة أفضل الحلول والوسائل لمكافحة الفساد الذي يستشري في الدولة، حيث أنّ هناك العديد من الخبراء العاملين في هذا المجال يمكن أن يساهموا في تطوير وسائل وبرامج فعالة من شأنها أن تسهم في مكافحة الفساد، وتساءل عما إذا كانت الخطوة كافية للقضاء على الفساد، وأجاب: إطلاقًا لا، ولا تصلح بمفردها في مكافحة الفساد، إذ لابدّ من تكاتف جهات عديدة لمكافحة الظاهرة، لأنّ العمل الفردي لا يمكن أن يثمر بنتائج قوية وفعالة على المستوى الفعلي، لكن العمل الجماعي من شأنه أن يقوي الجهود ويجمعها في قالب وهدف واحد. خطوة ممتازة وأثنى رئيس منظمة العدالة الدولية المحامي خالد أبو راشد، بالخطوة واصفًا إياها ب"ممتازة جدًا" وأضاف أن المجتمع في أمسّ الحاجة لها، ولا تؤخذ على أنّها تشكيك في ذمة العاملين والموظفين بقدر ما هي إجراء وقائي واحترازي على الأموال والممتلكات العامة، وقال: رغم ذلك الخطوة لن تكون كافية حتمًا لضمان عدم حدوث تجاوزات أو تحايل على النظام، حيث يمكن للموظف أو العامل أن يسجل الممتلكات أو المكتسبات التي اكتسبها خلال فترة العمل باسم زوجته أو أحد أبنائه أو أقربائه، إلاّ أنّ هذا النظام سيسهم بالتأكيد في التضييق على الكسب الغير مشروع، مع عدم الاقتصار في مكافحة الفساد على خطوة واحدة، حيث لابدّ أن يتبع ذلك بخطوات عديدة، وتفعيل دور الجهات الأخرى العاملة في هذا المجال كهيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية جنبًا إلى جنب مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، واعتبر أنّ تكاتف الجهود وقيام كل من هذه الجهات بواجباتها المنوطة بها وتوزيع المهام بشكل صحيح سيؤدي بالتأكيد إلى القدرة على كبح مظاهر الفساد. وأوضح أبو راشد أنّ ميزة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تكمن في أنّ الأمر الملكي الصادر في شأن إنشاء الهيئة لم يستثني أحد من أصحاب المناصب العليا من المحاسبة والرقابة، هذا ناهيك عن ربط الهيئة بخادم الحرمين الشريفين مباشرة. منتظرة وشرعية من جهته أيد رئيس الدراسات الدينية بكلية الملك فهد الأمنية وعضو المجمع الفقهي الإسلامي الدكتور محمد النجيمي بهذه الخطوة وقال: كنا ننتظرها منذ عشرات السنين، فمثل هذا النظام يحظى بنظرة تأيدية من الشريعة الإسلامية وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما استعمل رجلاً من بني أسد يُقال له: ابن اللُّتْبيَّة - فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم، وهذا لي أُهْدِي لي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فحَمِد الله وأثْنَى عليه، ثم قال: "ما بال العامل نَبعثه فيأتي، فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأُمِّه، فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر"، وقد كان عمر بن الخطاب أول من أحصى أموال عماله وقواده وولاته وطالبهم بكشف حساب أموالهم تحت مقولة "من أين لك هذا"، وقد ثبت عنه أنّه سأل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص عن الأموال العامة بحكم ولايتهم على الناس. الارتباط بالملك واعتبر الإجراء غير كاف لكبح مظاهر الفساد الإداري والمالي، وقال: لابدّ من تطبيق هذا النظام على الصغير والكبير والضعيف والقوي أيًا كان، كما يجب تطبيق هذا النظام وبقوة ومن يحاول الإخلال به يحال إلى القضاء، وأكد على أنّ أهمية أن يحظى النظام بالشفافية ويطبق بشكل واضح حتى لا يفقد مصداقيته، وفي المقابل أوضح أنّ نظام "الذمة المالية" قادر على إثبات فعاليته بسبب ارتباط الهيئة القائمة عليه بالملك مباشرة، كما أنّ هناك جهات أخرى لديها خبرة كافية في نفس المجال مثل هيئة الرقابة والتحقيق، كما أنّه لو أتيح للقضاء تطبيق كثير من القوانين والأنظمة فإنّه حتمًا سوف ينتج عن ذلك نتائج إيجابية تسهم في كبح مظاهر الفساد. واقترح النجيمي إعادة تسمية ديوان المراقبة العامة ب"الهيئة العامة للمحاسبات"، هذا بالإضافة إلى قيام هيئة الرقابة والتحقيق بدورها المنوط بها بحيث تعمل كلا الجهتين على تغطية جانب معين في مكافحة الفساد، وقال: لابدّ من التفريق بين هيئة الرقابة والتحقيق وبين ديوان المراقبة العامة والذي تكمن وظيفته في المحاسبة على المصروفات المالية للدولة والتدقيق في حسابات الصادر والوارد والتحقق من المصروفات المالية للدولة من خلال القيود المثبتة والوثائق الواضحة. الموظفين الكبار من ناحيته توقع أستاذ الاقتصاد الإسلامي الدكتور عبدالرحمن الحامد أن يطبق نظام "الذمة المالية" على المواطن ذوي القدرات المحدودة ويستثنى منه الموظفين الكبار والمتنفذين، وقال: وبناء على ذلك سيترك تطبيق النظام أثر سلبي على الآخرين، فكل نظام يسن في السعودية لابدّ أن يطبق على الضعيف قبل القوي، ففي الدول الديمقراطية يحاسب الكبار والصغار، ويقف فيها الوزراء والمسؤولين أمام البرلمان أو المجلس للمسائلة والمحاسبة، وشدد على ضرورة تفعيل وتطبيق نظام "من أين لك هذا"، وقال: نظام "الذمة المالية" يمكن أن يساند في الأساس القوانين ووسائل وأدوات أخرى لمحاربة الفساد ولا يأتي ذلك إلاّ من خلال اختيار وانتخاب شخصيات تحظى بشعبية واسعة ومصداقية لدى المواطنين وذلك للقيام بدورهم على أفضل وجه، كإجراء انتخابات نزيهة وحرة لاختيار شخصية نزيهة على مستوى الهيئات والجهات والبلديات التي لها سلطة على المواطنين، وإعطاء حرية كافية وصلاحيات واسعة حتى يكون لدى القائمين عليها القدرة على المحاسبة والمراقبة كما هو الحال لدى الدول الأخرى المتقدمة والتي تتمتع بشفافية ونزاهة كبيرة في مكافحة الفساد.