احتوى المقال السابق على المقولات الآتية: إن اتجاهات التغيير نحو وضع مؤسسات القوة تحت سيطرة مؤسسات العدل والتعايش، وإن التغيير يكون آمنًا إذا تبنته مؤسسات القوة، وإن المجلس العسكري في مصر يتبنى غالبية المطالب الشعبية. هذه المقولات تستدعي السؤال التالي: كيف تتبنى مؤسسة قوة أهدافًا ستنتقص في النهاية من سيادتها ونفوذها! السؤال وجيه، ويجعل بعض القوى السياسية ترتاب في نوايا المجلس العسكري رغم كل إعلانات النوايا التي أعلنها، وأكد فيها حرصه على نقل السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة.. إجابتي على السؤال: نعم قد تتبنى مؤسسة أهدافًا يبدو ظاهريًّا وكأنها تتناقض مع مصالحها، هذا يتوقف على كيف ترى وضعها داخل المجتمع التي هي جزء منه، وكيف ترى دورها فيه، وكيف تتصور مصالحها، وكيف تقيم المرحلة التاريخية وتوقعاتها بشأن حركة التاريخ. كل هذا متوقف على رصد جيد للواقع، وإحساس سليم بالتاريخ، وهي أمور أراها تتوافر للمؤسسة العسكرية المصرية بدرجة تؤهلها للرؤية الصحيحة والقرار الصائب. إذن لا يجوز الاستسلام للبداهة عند الإجابة عن السؤال، فإجابته مفتوحة حسب مقتضيات الحال. عند النظر إلى الموضوع أميل إلى استبعاد الجماهير الغاضبة صاحبة التظاهرات المليونية من تحليل المشهد! رغم أنها القوة الوحيدة وراء التغيير، ذلك أنه لا يمكن تحديد هويتها أو دوافع سلوكها. هي كتلة كبيرة مؤثرة، وضرورية لحث التغيرات إلا أنها كالماء الصحي بلا لون، ولا وطعم، ولا رائحة، كل القوى السياسية يمكن أن تستفيد من ضغط تلك الكتلة، دون أن يكون لأي منها حق ادّعاء تمثيلها، أو التعبير عنها، لأنها مفتتة من حيث الدوافع والمطالب، وقابلة للاستقطاب من القوى السياسية دون أن تعط صوتها بعد لأي منها، لذلك هي رصيد للجميع، ويكذب مَن يدّعي أنها في جيبه، حتى لو كان المدّعي الإخوان المسلمون أقوى المؤثرين عليها. من هنا عند تحليل المشهد نستطيع أن نكتفي بفاعلين: المجلس العسكري الذي فرضت عليه الأحداث خوض اللعبة السياسية مع كراهته لها، والأحزاب المستميتة في لعب دور سياسي مع هشاشة قواعدها الجماهيرية باستثناء حزب أو اثنين. أكرهت الأحداث المجلس العسكري على خوض السياسة في ظروف لو لم يخضها فيها لأسلم البلد إلى فوضى وانهيار، ذلك نتاج المعضلة الرئيسة، معضلة قيام الوجود الاجتماعي على عمود وحيد هو مؤسسات القوة، والتي يفترض أن التغيير سينصب على حلها. حاز المجلس سلطة مؤقتة لا يرغب فيها، ولا فى الاحتفاظ بها، يفترض انتقالها بعد الانتخابات إلى من ستفرزهم الصناديق. هذا لا يعني أن المجلس بلا أهداف تخص المؤسسة العسكرية، بلى لهذه المؤسسة امتيازات ومصالح موروثة، الجزء الأكبر منها أبعد ما يكون عن المصالح الشخصية أو الفئوية، الفرق بين المصلحة الشخصية وغير الشخصية أن الثانية يمكن تبريرها فى إطار مصلحة المجموع، بينما الأولى مصلحة شخصية محضة، وعلى النقيض مع مصلحة الجماعة. لا شك (ولا يعيب) أن من بين أهداف المجلس الحفاظ على الامتيازات والمصالح المبررة للمؤسسة خلال وبعد الفترة الانتقالية، أمّا غير المبررة (إن كانت موجودة) فستصفى من خلال العمل السياسي، أهداف التغيير والشروط التي يطرح بها تضمن قدرة العمل السياسي على تصفيتها. كل هذا يجعل من السذاجة تصور أن المجلس العسكري يمكن أن يدير الفترة الانتقالية بمعزل عن الأحزاب والقوى السياسية، أو أن يتعامل معها على قدم المساواة، ذلك أنها ليست متساوية من حيث أوزان شعبيتها بين الجماهير، تكافؤ الفرص بينها حق مكفول أمّا المساواة فموضوع آخر. لذلك فتواصل المجلس العسكري مع الإخوان المسلمين الذي يثير قلق كل القوى الأخرى عمل عادي وضروري ومطلوب، ومن التضليل تصويره كما يفعل البعض على أنه تحالف.. تستطيع الآن تصور من عساهم خصوم المجلس العسكري، بالتأكيد ليسوا الجماهير، قد أحدثك عنهم المقال المقبل.