في مراحل متقدمة للتحديث لابد من وضع مؤسسات القوة تحت سيطرة مؤسسات العدل والتعايش، كجواب على وضع قديم قدم التاريخ، أبقى على الأولى عمودًا شبه وحيد للنظام السياسي الاجتماعي. عمليات التحديث لا يفرغ منها فى سنوات أو عقود، ولا تتحقق نتائجها عن غير الطريق السلمي، وإلا كان الأمر مجرّد إحلالٍ لمؤسسات قوة محل سابقتها، دون تغيير لدورها أو علاقاتها مع المجتمع وباقي مؤسساته، لذلك قلت لسائق التاكسى القاهري إني أؤيد نظامًا يتعاون مع المؤسسة العسكرية بدون أزمات، مما استدعى سؤاله الافتراضي (الذي لم يسأله)، عن ما عساه يدعو مؤسسة قوة إلى التخلي عن امتيازاتها؟. بالتأكيد لو أنها شخّصت مصلحتها خارج مصلحة الجماعة، وعلى تناقض مع هذه المصلحة، فلن تتخلى عن شروط ومواصفات الجمهورية الأولى، إلا أن هذا سيكون خطأ في تشخيص المصلحة لا بد أن يصحح يومًا، وتأخر تصحيحه يترتب عليه إطالة للآلام وإضرارًا بالمصلحة الجماعية. والتصحيح ليس مستبعدًا إنسانيًا، ففي وضع مطابق اتخذت المؤسسة العسكرية التركية القرار السليم قبل عشر سنوات. لأنها في النهاية مؤسسات وطنية، وترى نفسها كذلك، ولا قيام لمصلحة ذاتية لها بعيدًا عن المصلحة الوطنية. من يتصور أن التصحيح يمكن أن يُفرض على مؤسسات قوة لا يدرك حماقة وخطورة تصوره، لأننا نتحدث عن مجتمعات لم تقترب بعد من جوهر التحديث، ومؤسسات القوة عماد وجودها الوحيد، إن اهتز العماد إنهار هذا الوجود، وارتد إلى صورة لا يتحمل ضمير المجازفة بقبولها. لعلك أدركت الآن لماذا أجبت السائق بما أجبت به، استنادًا إلى تجنب ما لا يقبله عقل ولا ضمير، ورهانًا لا مجازفة فيه على وطنية مؤسسات القوة، مما يؤهلها لاعتماد الخيار السليم، إن لم يكن اليوم فغدًا أو بعد حين، لأن كل المعطيات والأسانيد الداعية للتدرج فى اعتماده متاحة منذ 80 عامًا، ولم تؤدِ المماطلة إلا إلى مواجع وتخلف لا ضرورة لهما، بينما كل مؤهلات صنع المجتمع الأفضل متاحة، صنعه لا إقامته، لأنها عمليات صنع طويلة تقتضى التدرج، مشكلة الثمانين عامًا الماضية ليس أنه لم يحرز فيها تقدمًا، إنما البطء والتلكؤ، وغلط التجارب مع حسن نواياها، حسن النية لا يعفي من المسؤولية. في الحدث الجاري عوامل تدعوني لتحجيم ميولي التشاؤمية، أهمها أن الرسالة المستفادة من خبرات الماضي أوضح من أن تساء قراءتها، مع ثقتي في حسن قراءة المجلس العسكري لها، ثقة مستمدة من مؤشرات كثيرة لا متسع لسردها. فقط قد يكون لدى المؤسسة العسكرية المصرية قلقا وهواجس موضوعية ومشروعة بشأن المستقبل، يمكن أن تصفى من خلال ترتيبات مناسبة للمرحلة الانتقالية، إذا أدركت القوى السياسية أن لا بديل آخر آمنًا سوى التعاون البنّاء معها.. هذا على طريقة برنامج من سيكسب المليون، جواب نهائي على السؤال الذى لم يطرحه سائق التاكسي.