ويكون الاختلاف في أمور مما يسميه العلماء اختلاف التنوع، فهناك -مثلًا- فروض الكفايات، هناك من يقوم بأمر الدعوة إلى الله وتبليغ الدين، وهناك من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي: أمة من مجموعكم، فينبري لهذا العمل طائفة من الناس، وهناك فروض يقوم بها أقوامٌ آخرون، والجهاد أيضًا هو من الفروض التي ينبري لها أقوام سخرهم الله -سبحانه وتعالى- واستعملهم في ذلك ممن يجودون بأرواحهم إذا ظن الناس وأحجموا، وهناك العلم والتعلم تقوم به طوائف من العلماء، والمتفقهين، والمعلمين الشرعيين وغيرهم، وهكذا جميع متطلبات الحياة، بل إن الذين يقومون على معاش الناس، وعلى مصالحهم وصحتهم وعلاجهم، وسفرهم وإقامتهم وحمايتهم، كل هؤلاء يقومون بفروض كفايات تحتاجها الأمة، ولا بد لها منها سواء عرفوا هذا أم لم يعرفوه، احتسبوا فيه أم لم يحتسبوا إلا أنهم في الجملة يقومون بأشياء من فروض الكفايات، ولا يلزم لمن فتح الله -تعالى- له باب خير أن يزدري ما لدى الآخرين؛ لأن هذا يدخل في قول الله -تعالى-: «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ»، فالشريعة والملة لا يستطيع أن يحيط بها فرد واحد، وإنما لا بد فيها للأمة كلها، فيقوم أقوام بجانب، ويقوم آخرون بجانب، ونسيان حظ مما ذكرنا به هو من أسباب العداوة والبغضاء. يقول الإمام ابن تيمية: «فأخبر الله -تعالى- أن نسيانهم -يعني أهل الكتاب- حظًا مما ذُكِّروا به، وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهذا هو الواقع في أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها وكثير من فروعه، ومثلما نجده بين العلماء والعباد ممن يغلب عليهم الموسوية، أو العيسوية -يعني: التشبه باليهود، أو التشبه بالنصارى- حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة ليست الأخرى على شيء -يعني كما قال الله -تعالى-: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ، وهكذا النصارى قالوا: «لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ»؛ ثم قال: كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهما ينفي طريقة الآخر، ويدعي أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من أهل الدين- أي: إما يدعي هذا بقوله أو بفعله- فتقع بينهما العداوة والبغضاء، وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن، وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه. فنجد كثيرًا من المتفقهه والمتعبده إنما همه طهارة البدن فقط ويزيد على المشروع اهتمامًا وعملًا ويترك من طهارة القلب ما أمر به إيجابًا أو استحبابًا، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك- يعني: طهارة البدن- ونجد كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة -أي: الفقراء- إنما همته طهارة القلب فقط حتى يزيد فيها على المشروع اهتمامًا وعملًا، ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجابًا أو استحبابًا، فالأولون -الذين هم المتفقهة- يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه، مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر والغل لإخوانهم -ولا يقصد التعميم وإنما طائفة من الناس- وفي ذلك مشابهة بينة لليهود، والآخرون -يعني: المتصوفة- يخرجون إلى الغفلة المذمومة؛ فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر الذي يجب اتقاؤه، يجعلون ذلك من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ولا يقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى، وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغي الذي هو مجاوزة الحد إما تفريطًا وتضييعًا للحق، أو عدوانًا وفعلًا للظلم، والبغي تارةً يكون من بعضهم على بعض، وتارةً يكون في حقوق الله -تعالى- وهما متلازمان، ولهذا قال الله -تعالى-: «بَغْيًا بَيْنَهُمْ»، فإن كل طائفة بَغَتْ على الأخرى فلم تعرف حقها الذي بأيديها، ولم تكُفَّ عن العدوان عليها... فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمعُ الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنًا وظاهرًا. وسبب الفرقة: ترك حظٍّ مما أُمِر العبد به، والبغي بينهم. ونتيجة الجماعة: رحمة الله، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة: عذاب الله، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول منهم» انتهى كلامه -رحمه الله-. وإذا كان الشيخ -رحمه الله- تكلم بهذا المثال الذي ينبع من صميم واقعه ومعاناته؛ فإن بإمكانك أن تنقل هذا المثال إلى كثير من المتنافسين اليوم حتى من أهل الخير، وأهل الاتباع، وأهل السنة، فتجد بينهم من المنافسة في الأمور العلمية، أو العملية، أو التعبدية، أو أصناف الخير ذلك ما يفضي إلى هذه المجافاة، وإلى ازدراء وتحقير ما عند الآخرين، وإلى البغي والعدوان والاستطالة عليهم، وما أشبه ذلك من مصادرة الجهود والتقصير في حقوق الأُخوّة.