تعدَّدت موضوعات الشعر في تراثنا الأدبي، واختلفت باختلاف الرؤية والتصور، وامتزاج العاطفة بالفكرة التي ينطلق من خلالها الشاعر ليعبر من تجربته الشعرية. ومن موضوعات الشعر التي فاضت بها قرائح الشعراء، وفاحت بها مشاعرهم الوجدانية الصادقة ما يتصل بالمعاني الإيمانية الراسخة، التي تتجه الى تعظيم الخالق – جل وعلا – وإفراده بالعبودية والألوهية، وأنه هو الخالق، المدبر المصرف لأمور الكون، الذي خلق كل ذرَّة من ذرَّات الوجود بحكمة وبديع صنع، وأنه تعالى هو المستحق للعبادة وحده دون سواه، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء عن عباده. وكان من مقتضى ذلك التوحيد الخالص أن تتوجه الجوانح والأفئدة إلى خالقها – جل وعلا – تسأله العفو والمغفرة، وترجو منه النصرة وكشف الغمة، والتَّوفيق والسَّداد في كلِّ الأمور. ولأجل ذلك كثر الدُّعاء في دواوين بعض الشعراء، ولعل أهمية هذا الجانب لدى المسلم يفسِّر ذلك، فالدُّعاء متنفَّس عظيم للنفس المؤمنة، تبوح فيه بما تريد، وترجو ما ينفعها ويسعدها في دنياها وأخراها. ومن أولئك الشعراء الإمام السُّهيلي، أبو الحسن عبد الرحمن بن عبد الله المالقي، صاحب التصانيف الغزيرة، ومنها الرَّوض الأُنُف في شرح سيرة ابن هشام، حيث يقول في بعض أبياته : يا من يرى ما في الضمير ويسمعُ أنت المُعدّ لكل ما يُتوقعُ يا من يُرجَّى للشدائد كلِّها يا من إليه المشتكي والمُفزع يا من خزائن رزقه في قول كُنْ اُمنن فإن الخير عندك أجمعُ مالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ فلئن رددت فأيّ باب أقرعُ مالي سوى فقري إليك وسيلة وبالافتقار إليك فقري أدفعُ ومن علامات التَّوبة والنَّدم ما مضى ما يظهر في التَّوجه الى الدُّعاء، والتَّضرع الى الخالق جلَّ وعلا، وسؤاله الرحمة والمغفرة وكشف الضُّر، ومن ذلك ما يظهر في أبيات أبي إسحاق الشيرازي التي يقول فيها : لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ وقلت : يا عُدَّتي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمدُ أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها مالي على حملها صبرٌ ولا جلدُ وقد مددت يدي بالذُّل مبتهلاً إليك يا خير من مُدَّت إليه يدُ فلا تردَّنَّها يا ربِّ خائبةً فبحر جودك يروي كل ما يردُ ويقع الشاعر أبو فراس الحمداني أسيرًا في أيدي الروم بعد إحدى المعارك، وتجتمع عليه جراح المعركة، وألم الأسر، ومعاناة الغربة، ولوعة الاشتياق إلى أهله ووطنه ودياره، ولكنه أمام ذلك لم يضعف، ولم تفت تلك الأحداث في عضده، وإنما ظل أبيًّا قويًّا، عزيز النفس، مؤمنًا بأن ما هو فيه من الأسر إنما هو مقدر مكتوب، وأن الله تعالى هو الذي سيكشف ضره ويفك أسره، ويفرج كربته، حيث يقول : مصابي جليل، والعزاء جميلُ وظني بأن الله سوف يديلُ جراح، وأسر، واشتياق،وغربة أُحمَّل.. إني بعدها لحمولُ تطول بي السَّاعات، وهي قصيرة وفي كل دهر لا يسرُّك طولُ ومن لم يُوقِ الله فهو مُمزَّقٌ ومن لم يعز الله، فهو ذليلُ! ومن لم يرده الله في الأمر كله فليس لمخلوق إليه سبيلُ وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصرًا وإن جلَّ أنصارٌ وعز قبيلُ وإنَّ رَجَائِيهِ وظنِّي بفضله على قُبحِ ما قدمتهُ، لجميلُ ودواوين الشعراء مليئة بتلك النفثات الإيمانية بكل ما تحمله من تأثُّرٍ وتأثير وعاطفة صادقة . *الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية .