لا شك أن الأمن من عذاب الله لا يتأتى للمؤمن أن يجزم به لنفسه أو لغيره، فدوماً حال المؤمن بين الرجاء في الله، والخوف من عقابه، يسعى ما استطاع أن يدفع عن نفسه غضب الله وعذابه، بطاعته لا على سبيل المقايضة، وإنما على سبيل الرجاء، يؤدي ما وجب عليه فيفعل ما أمر به وندب إليه، ويجتنب ما نهاه الله عنه أو كره له أن يفعله، وهو بهذا إنما يحقق معنى العبادة، التي هي وظيفته الأسمى بأصل خلقه، أليس ربنا يقول (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وهو على يقين أن عمله وحده لن يدخله الجنة، ويأمن معه ألا يدخل النار، فقد قال سيدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (لن يدخل أحد عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب)، ومهما كانت أعمال العبد الصالحة فهي لن تكافئ النعم التي أنعم الله بها عليه، حيث أوجده من العدم، ورزقه من الطيبات، وهداه الى الإيمان، ووفقه الى الأعمال الصالحة، ولاشك أن الأعمال الصالحة منها ما تتضاعف أجوره، خاصة إذا كان مما ينفع الناس، فقد سئل سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير الناس فقال (أنفع الناس للناس)، فأن ينفع المؤمن أخوانه، ويقضي لهم حوائجهم فتلك مرتبة في العمل الصالح لا يبلغها إلا من طلب النجاة من النار فعلا، فقد جاء في الحديث (إن لله عبادا اختصهم لقضاء حوائج الناس، حببهم في الخير، وحبب الخير فيهم، هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة)، وهذا الحديث وإن كان ضعيفا عند البعض إلا أن طرقه تعددت وبألفاظ مختلفة مما قواه ورفعه إلى مرتبة الحسن منها قوله صلى الله عليه وسلم ( إن لله عباداً يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة)، ومنها قوله (يحشر قوم من أمتي على منابر من نور، يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، نورهم تشخص منه الأبصار، لا هم بالأنبياء ولا هم بصديقين ولا شهداء، إنهم قوم تقضى على أيديهم حوائج الناس) فالساعي إلى نفع الناس، خاصة من ولي أمراً من أمورهم واؤتمن على شيء من مصالحهم كالمسؤولين على تفاوت رتبهم، والموظفين العموميين، فهم إن قضوا للناس حوائجهم عبر قيامهم بواجباتهم الوظيفية على أكمل وجه، كانوا بإذن الله من هؤلاء الذين يأمنون العذاب في يوم القيامة، وهم إن لم يفعلوا واتعبوا الخلق، وعطلوا مصالحهم، ولم يرعوا حقوقهم، فهم ممن دعا عليهم سيدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قال (اللهم من ولّي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولّي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فأرفق به) وهو إن غشهم حرمت عليه الجنة، فقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يسترعيه الله رعيّته يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة) وفي رواية أخرى (فلم يحطها بنصحية لم يجد رائحة الجنة). ونحن نعلم يقينا أن من ظلم الناس فآذاهم بدنا أو مالا أو عطل مصالحهم فقد ارتكب معصية لا يغفرها الله له إلا أن تحلل ممن أوقع الظلم عليه، وطلب العفو منه، فحقوق العباد لا يسقطها عن من انتهكها طاعة مهما بلغت إلا أن يؤدى لهم ما حرمهم منه، وهذا الأمر إن رعاه المسلمون وعملوا بمقتضاه كانوا مثالا في عالم الناس يقتدى به، فهم حينئذ لن تجد بينهم من يظلم العباد أو ينتهك حقوقهم التي شرعها الله لهم، بل سعى لنفعهم ما استطاع، ودرأ عنهم الشرور ما قدر على ذلك، ولكان الإخاء بينهم هو السائد، به يتحابون وله يتعاونون، يعرف كل منهم لصاحبه حقه، لا يرزأه في مال ولا يعتدي له على بدن، ولكان نبراسهم في الحياة العدل يزِنون به كل أمورهم، يعدلون مع أنفسهم ومع الآخرين، وهذا هو ما جعل لهم في صدر زمانهم القدرة على إقناع الناس باتباع دينهم، لما يرونه فيهم من الفضائل، ولما يقومون به من أعمال الخير التي تعم سائر الناس، بعدل ومساواة لا نظير لها، وليت أئمة جوامعنا وخطباءها ووعاظنا يركزون على مثل هذا ويدعون إلى التزام العدل في كل المعاملات بين الناس، فهذا ولا شك خير من الالتفات دوما إلى موضوعات خلافية يثيرها بعضهم، لا يستفيد منها الناس، ولعلها تؤدي إلى فرقة بينهم، فهل يفعلون هو ما نرجو والله ولي التوفيق. ص.ب 35485 جدة 21488 فاكس 64070043 [email protected]