كيف يمكن لسورية أن تفي مدينة حمص جزءاً صغيراً من حقَها في يومٍ من الأيام؟ أي سرٍ سرمدي كانت تُخفيه حمص وأهلها عن الدنيا بأسرها قبل اشتعال الثورة السورية؟ أي هواءٍ يتنفّسه أهل هذه المدينة؟ أي طعامٍ يأكلون، وأي نوعٍ من الماء يشربون؟ تبدو الأسئلة بلهاء، وتشعرُ بذلك وأنت تكتبُها. لكنك تكتبها في جميع الأحوال لأنك تحاول تفسير مدينةٍ / ظاهرة أصبح اسمها حمص. قد لايكون في الأمر مخاطرةٌ إذا تحدّى المرء جهابذة العلوم الاجتماعية بأسرهم على تفسير هذه الظاهرة بأي طريقةٍ ومن أي مدخلٍ من المداخل. فليعودوا إلى كل نظرياتهم ومدارسهم ومناهجهم لمحاولة فهم الظاهرة. سيعودون يقيناً خائبين. وسيبقى إلى زمنٍ قادمٍ أمراً أقرب للمستحيل أن نفهم كيف تحوّلت حمص من مدينةٍ وادعةٍ، كادت أن تكون هامشيةً في يومٍ من الأيام، لتصبح اليوم عاصمة الثورة السورية دون منازع. بل إن ماجرى ويجري في هذه المدينة يجب أن يفتح بعد الآن أبواباً جديدة للدراسة والتحليل في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية لم تخطر ببال أحدٍ من قبل. سأستعير فقرة وردت على صفحة الثورة السورية لا أعرف كاتبها وتتحدث عن إنسان حمص على الشكل التالي: «رأيته يمشي وكأن الأرض تتنافس على موطئ قدمه. ثبات في القامة، وثقة في الخطوات. نضرة في الوجه هي للنور أقرب من مخايل الدلال. تساءلت في نفسي ما سر هذه الهامة المرفوعة؟!! وهذه الهيبة المهيبة؟!!لا شك أن الذهب قد شدّ من عوده، وأن الجاه قد علمه مشية الملوك. اقتربت منه وفي نيتي السؤال عما يشبع فضولي، سلمت عليه، فرد التحية بأحسن منها، وأخذ بيدي يصافحني.ليست هذه يد من تربى بين الخدورفي القصور،بل يد من نحت الدنيا وصارعها،حكمها ثم اعتصرها فأخرج منها قوت يومه وثمن عزته. زاد فيَّ الفضول حتى قطع منابت الكلام مني،فلما لاحظ ارتباكي أخرجني من صمتي بدعوته للنزول في بيته فقد تفرس أنني غريب وظن أنني أبغي السؤال عن طريق.فقلت له وأين بيتك أخي؟أجابني وابتسامة محزونة ارتسمت على شفتيه: كان لي بيت في باباعمروولكنه قصف،إلا أن بيوت حمص الآن كلها بيتي.مرت بي لحظات من الصمت والخشوع لاأدري مقدارها ولكن أعرف جيدا أثرها.فقد رسمت أخدودا في مخيلتي وذاكرتي،ولم يعد هناك داع لأسئلتي فقدعرفت السروزال عني تعجبي..هومن منابت باباعمرو»... أخجل بكل مافي طاقتي من خجلٍ إنساني أنني لم أكن أعرف إلى قيام الثورة بابا عمرو.. يقتلني الخجل كسوري أنني لم أكن أعرف باب السباع والخالدية والقصور وتلبيسة وجورة الشياح وباب الدريب والقصير ودير بعلبة وغيرها وغيرها من أحياء حمص وضواحيها.. وأحلم بيومٍ قريبٍ أزور فيه كل منطقةٍ وكل شبرٍ في حمص لأُقبّلَ جباه أهلها وأياديهم على ماقدّموه للثورة السورية. فحمص اليوم تقدّم نفسها فداءً لهذه الثورة بكل مافيها من قدرةٍ على العطاء، وتهبُ نفسها بكل وضوحٍ وإصرار قرباناً لتلك الثورة. كان يمكن لحمص أن تهدأ لتتنفس، لكنها لم تفعل. كان يمكن لها أن تأخذ قسطاً من الراحة بعد أن فعل مغول العصر بها مافعلوه، ولم يكن ليخطر في بال سوريٍ أن يؤاخذها من قريبٍ أو بعيد. لكنها أصرّت ولاتزال على أن تكون الجبهة الأولى والصف الأول من جبهات الثورة وصفوفها. حمص اليوم بإنسانها ظاهرةٌ فريدةٌ في التاريخ العربي المعاصر على الأقل. وهي في صمودها وبطولتها وعزيمتها وإصرارها تكتب تاريخاً جديداً عن كمونٍ إنساني هائل نسي البشر في هذا الزمن إمكانية وجوده في هذا المخلوق العجيب. حمص اليوم تختصر ببساطةٍ تكاد تكون مخيفة قصة الإنسان على هذه الأرض. فأحداثها تُظهر من جانب درجةً من الانحطاط الأخلاقيٍ يمكن أن يصل إليها الإنسان، تجعله أسوأ بكثير من الحيوان. ذلك أن حجم الحقد المصبوب على هذه المدينة لايمكن أن يصدر عن مخلوقٍ ينتمي للإنسانية من قريبٍ أو بعيد. لكن الأحداث نفسها تبين درجةً أخرى من السموّ والنبل يمكن أيضاً للإنسان أن يصل إليها، ويكون معها أقرب إلى الملائكة. لانريد أن نبخس أحداً حقه فسورية مليئة بالأبطال اليوم في كل مكان. ولسنا هنا في مقام التأكيد على الدور الكبير لدرعا وحماة وإدلب ودير الزور وغيرها من مدن سورية ومناطقها في الثورة السورية. ولانعتقد بأي حالٍ من الأحوال أن سورياً يعشق وطنه وثورته يمكن أن يفكر اليوم بأننا نُفضّل مدينةً على أخرى في مجال عطائها للثورة. يكفيني في هذا المجال أن أرى صورة شابٍ خرج في مظاهرة يوم الجمعة وهو يحمل لافتةً كتبَ عليها «أنا كردي من عامودا وأعشق حمص».. لأتجاوز كل الاعتبارات الدبلوماسية التي قد يفكّر البعض بها في هذا المقام. منذ أكثر من أربعة عقود، كتب نزار قباني أبياتاً قال فيها: وقبرُ خالدَ في حمصٍ نُلامسهُ فيرجف القبر من زواره غضبا، يارُبّ حيٍ رخام القبر مسكنه وربَّ مَيتٍ على أقدامه انتصبَ. كان ذلك في زمن الهزيمة والانكسار ووسط أجوائها الكئيبة المسكونة بالذل والعار. ليت نزار كان حياً اليوم ليرى كيف تفوح من قبر خالد رائحة الفخر والعزة والكرامة. ليته كان موجوداً فيرى كيف عادت الحياة في أروع معانيها تدبُّ في أحفاد ابن الوليد، وكيف باتوا يُسطّرون ملامح في التضحية والعطاء والفداء لم يشهد التاريخ المعاصر لها مثيلاً. لن يرجف قبر خالد من زواره غضباً بعد اليوم يانزار. وأبطال حمص المنتصبون بقاماتهم العالية يقهرون الخوف والمستحيل، ويرتفعون بها إلى عنان السماء بشكلٍ يفخر به ساكن القبر كما لم يفخر من قبل على مدى قرون.