لم يكن خبر وفاة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز على كبير محرري الموسوعة العربية العالمية وعضو هيئة تحريرها الإعلامي المصري إبراهيم خلف، خبرًا عاديًا، أو مجرد وفاة عادية لشخصية قيادية سعودية، بل اعتبرها شهادة وفاة ثقافية خسرت بها المكتبة العربية والإسلامية ركنًا كبيرًا من دعائمها القوية في الأرجاء كافة. المذيع والصحافي والإعلامي المصري أحد شهود العيان الذين عاصروا الانجاز منذ لحظة اختياره من بين ألف مصري تقدموا للعمل في الموسوعة العربية العالمية التي رأس مجلس إدارتها وأنفق عليها سلطان الخير مائة مليون ريال ورعاها خطوة خطوة حتى صدرت طبعتها الأولى في الرياض عام 1996. يقول إبراهيم خلف ل «المدينة»: إن العزاء الوحيد في فقد الأمير سلطان أنه أنقذ المكتبة العربية والإسلامية بإصدار هذا المشروع الضخم في قيمته ومعناه ومبناه.. أنقذ المكتبة من فراغها الموسوعي الذي ظل جاثمًا عليها دون أن يكون لها دور أو سبق في صناعة موسوعة واحدة على الأقل تسد به غلة المثقفين وتضع به أساسًا متينًا لعمل موسوعي شامل بحجم الموسوعة العربية العالمية. 100 مليون ريال يروي خلف البدايات وكيف التحق بالموسوعة، قائلًا: البداية كانت عام 1993 حين تم الاعلان في الصحف المصرية عن حاجة مشروع ثقافي كبير بالمملكة لعدد من المحررين (ولم يذكر اسم الموسوعة في الاعلان)، فتقدمت كشأن أي مثقف في مصر، وجاءني اتصال بعد أيام للاختبار أمام لجنة منعقدة خصيصًا لهذا الموضوع بالقاهرة، فاختبرت تحريريًا عبر امتحان صعب وفقني الله فيه، وطلب رئيس اللجنة الدكتور أحمد الشويخات من مساعديه الاتصال علي فورًا وترك لهم العقد وتذاكر الطائرة وجميع التسهيلات، وما هي إلا أيام قليلة وسافرت إلى الرياض ضمن سبعة محررين اختيروا من مئات المتقدمين، ولم أعلم أنها موسوعة إلا عند توقيع العقد. ويضيف خلف: كان عملي هو تحرير وتنقيح ومراجعة المواد في مراحلها كافة من جميع النواحي اللغوية والعلمية والصياغية عبر استراتيجية محكمة وضعها مدير عام الموسوعة الأديب والباحث والموهوب الدكتور أحمد الشويخات وهو أستاذ جامعي سعودي صاحب فكر علمي ويسبق زمانه في أشياء كثيرة، وعندما بدأ العمل فوجئت أنها موسوعة كبرى ضمن مشروع ثقافي كبير وافق الأمير سلطان (النائب الثاني حينها) على الإنفاق عليه ورعايته حتى ينتهي وبالفعل تم صرف نحو مائة مليون ريال من جيبه الخاص بعد اقتناعه بالفكرة التي تحمس لها حماسًا منقطع النظير. علاقات الأمير بالعاملين وعن علاقة العاملين بالموسوعة مع سموه، قال خلف: الأمير سلطان كان رئيس مجلس إدارتها.. وأعضاء المجلس رموز ثقافية وسياسية كبيرة.. وكنا لهم بمثابة المجلس التنفيذي.. والمجلس يراقب ويبحث ويطلع علي الخطوات دوريًا.. ولم نطلب من سموه شيئًا إلا وتجاوب معه ضمن خطط مدروسة تحافظ على المشروع.. فنشأت العلاقة إذن بيننا وبينه في هذا الإطار باعتباره رئيس المجلس وخطاباته للمسؤولين في الموسوعة وأوامره التحريرية مرة والشفوية مرة، وكان الخط ساخنًا بين المسؤولين في الموسوعة وسموه، فشعرنا وكأنه يجلس معنا السنوات الثلاث الأولى التي صدرت فيها الموسوعة. وعما اذا كان العمل بالموسوعة قد أتاح له فرصة التعرّف عن قرب على الأمير سلطان، قال خلف: في أول الأمر وفي الشهور الست الأولى من عملي في الموسوعة لم تكن لي علاقة بسموه أو بمجلس الموسوعة، حيث كنت في حالي كما يقولون لا هم لي إلا العمل، إلى أن صدر قرار بتوليتي منسقًا عامًا لأعمال التحرير والمراجعة وتشمل صلاحياته القيام بأعمال رئيس تحرير الموسوعة الذي لم يكن قد عُين بعد، حتى جاء للمنصب الدكتور يوسف مكي والدكتور سعد البازعي، من هنا بدأت علاقتي بمجلس الموسوعة من خلال قيادات الموسوعة الأصليين المدير العام والمدير التنفيذي الدكتور صلاح الطيب وهو أستاذ جامعي سوداني، وأذكر أنني بُلغت بشكر سموه -عبر المسؤولين- عن الجهد المبذول وعن سير العمل على النحو المتفق عليه. مواقفه الإنسانية ومن المواقف التي لا أنساها للأمير سلطان، هو أنني مرضت مرة مرضًا استدعى جراحة عاجلة، وكنت أرغب في إجرائها بالقاهرة، فما بين أخذ ورد ومباحثات للسفر من عدمه (لحاجة العمل لي) فوجئت بالمدير العام يبلغني أن الأمير سلطان وافق على السفر للقاهرة لإجراء الجراحة وتحمل جميع نفقات السفر وغيره على حسابه الخاص.. فكان هذا ملمحًا إنسانيًا زاد من معنوياتي إلى حد كبير. ومن مواقفه كذلك، موافقة سموه على تمديد مدة العمل وزيادة الإنفاق من 30 مليونًا إلى 60 مليونًا ثم زيد إلى مائة مليون على ما أتذكر دون أن يعترض أو يبدي تحفظاته، ثم كان قراره العظيم بتوفير نسخة من الموسوعة (30 مجلدًا) لكل مدرسة وكلية بالمملكة، وعلى ما أذكر فقد أمر بإقامة جناح خاص للموسوعة في معرض القاهرة الدولي للكتاب بعد صدورها ولم يرض المدير العام ساعتها أن أشرف أنا على الجناح بالقاهرة دون دعم مالي وتحمل كل النفقات رغم إنني كنت أيامها في إجازة سنوية رسمية بمصر، ومن ثم احتسب إجازتي بأجر مضاعف ونفقة كاملة تشمل تذاكر الطيران بأجر مضاعف والعودة.. كل هذا وبكل تأكيد نابع من سياسة الأمير سلطان وحميميته لأبناء الموسوعة. ويرد خلف انجاز المشروع إلى فضل الله ثم الإنفاق السخي عليه، لأن مثل هذه المشاريع تتعثر من أول أسبوع، ثم رئاسته لمجلس إدارة الموسوعة، فالموضوع إذن جاد، والعاملون فيه جادون وعلى أعلى مستوى من الفكر والعلم والثقافة. فريق الموسوعة وعن فريق العمل في الموسوعة، قال: على ما أذكر كان يتعاون معنا نحو 100 أستاذ جامعي يداومون يوميًا في الفترة المسائية، إضافة إلى كبار المحررين، وكل هؤلاء من جنسيات مختلفة من مصر والسودان وفلسطين والأردن وتونس، وأتذكر من هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر أستاذي محمد عبدالخالق وهو أستاذ جامعي سوداني بجامعة الإمام محمد بن سعود والأساتذة الكرام إبراهيم القرني ومحمد عبدالعال وخليل خليفة وعصام شريف وصالح الغامدي وعبدالعزيز العنزي، ومن مصر أستاذي فؤاد قنديل الروائي المصري الكبير وعبدالحكم محمد وموريس أبو السعد ومحمد المهدي، وكان معنا من الاستشاريين الكبار الدكتور الأحمدي أبو النور والدكتور عثمان الصيني.. والكل يعمل تحت مظلة المدير العام الدكتور أحمد الشويخات صاحب الفكرة ومقدم المشروع والدكتور صلاح الدين الطيب الزين الذي أدار العمل بفدائية خاصة.. وكان عليّ أن أستوعب طاقم التحرير بكامله عبر مراجعاتي على أعمالهم لتطور العمل وضمان جودته وكنت أعقد لهم اجتماعًا أسبوعيًا ألمّح فيه لمواطن الخلل والتقصير أو حتى الجودة والتطوير، إضافة إلى أن الطاقم الفني العام الذي حمل على عاتقه مهمة الإخراج والضبط والتصوير والاسكانر والبروفات والطباعة حتى آخر لحظة، وقد جاءت النتائج على أكبر وأعلى وأرقى مما كنا نتصور، إذ لاقت الموسوعة استحسانًا كبيرًا بين الأوساط الثقافية وأحدثت صدى ثقافيًا فى المحافل الدولية والعالمية لأن المكتبة العربية للأسف الشديد تخلو من عمل مثل هذا.. لم يستطع العرب ومؤسساتهم أن يصنعوا عملًا كهذا وكل محاولة سبقت هذه الموسوعة إما فشلت أو تعثرت ماديا أو في جلب كوادر مهيئين لهذا المشروع أو فترت عزيمتهم أو طغت عليها الأحداث فأهملت أو راحت مع النسيان. له كل ما أملك وسط هذا الجو المشحون بغبار الحياة دخلت الموسوعة العربية العالمية هذه بخطتها المحكمة.. ودرست أسباب النجاح ودواعي الفشل.. غير أن الأمير سلطان وفّر عليها أكبر جانب مهم لم تستطع دول أن تنهض به فأنفق عليها، وعلى ما اذكره أنه قال مرة عبارة (وله كل ما أملك) فاطمأن جانب المسؤولين عن الخطة وانصرفوا لتوجيههم وهو التصميم على عمل أكبر مشروع ثقافي عربي فريد من نوعه اشتغل عليه تقريبًا نحو ألف عالم ومحرر ومخرج ومصحح وفني ومراجع ومصور تحت سقف واحد.. ومن يقدر على الاتفاق على ألف عالم في وقت قصير إلا من يقدّر بحق معنى الثقافة ويقدّر صناعة الموسوعات. وعن اهتمام الأمير سلطان وغيرته على الدين وثوابته، وكيف انعكس ذلك على عمل الموسوعة، قال إبراهيم خلف: دائمًا ما كان يوصي بأن تكون الموسوعة خالية من كل ما يهين الإسلام أو يمس المسلمين أو أحد ثوابته، كما كان حريصًا عبر مكاتباته على أن تبرز فيها ملامح الحضارة العربية والإسلامية بما قدمت من عطاء للإنسانية جمعاء، وكان هذان الاعتباران في عيوننا ورؤوسنا ونحن ننتج هذه الموسوعة العظيمة. مراحل المشروع وعن مراحل العمل فى المشروع، قال: بدأ العمل التنفيذي الفعلي في هذه الموسوعة أوائل عام 1993 واستمر ثلاث سنوت حتى صدرت الطبعة الاولى منها عام 1996 ودُشنت في احتفال رسمي كبير بالرياض وسط جموع حاشدة من الشخصيات العربية والعالمية والمحلية.. وكان حدثًا فريدًا من نوعه وعرسًا من أعراس المملكة الثقافية في نهائيات قرن ولّى.. لكن سبق هذا التنفيذ خطوات تمهيدية استمرت قرابة سنتين ما بين إعداد وترجمة مواد ومراجعات وتنسيقات خاصة في هذا الشأن. وحول ما يميّز هذه الموسوعة عن غيرها، قال: أولًا دعنا نتفق على أنها موسوعة شاملة.. ثانيًا موضوعاتها مرتبة بدقة وفيها حركة إحالات مرجعية عامة وخاصة تثري الموضوع المطلوب قراءته.. ويسهل الدخول والانتقال السريع من وإلى هذه الموضوعات وكأنها آلة إلكترونية لكنها بدون زر.. يعني الموسوعة ربما سبقت وارتهنت بما يُسمى محركات البحث السريعة التي تجتمع بها الكمبيوتر وعالم النت، غير أن ما بين يديك نسخة ورقية ولا حاسوبية. رسالة أخيرة وحرص إبراهيم خلف على أن يرسل رسالة أخيرة إلى سمو الأمير سلطان وهو في دار الحق، قال فيها: يا صاحب الابتسامة البيضاء.. لقد أضأتَ قلوبنا.. واشعلتَ فينا الهمة نحو هذا العمل البناء.. ولامستَ بيدك الكريمة متاعبنا.. وابتلتَ عروقنا نحن المثقفين بوجود هذا المشروع الذي رفع هامة المثقفين والطلاب والباحثين عن معلومة شاملة موثقة.