لم تكن سيطرة التكنولوجيا على كافة مفاصل الحياة، وتسريع وتيرة إيقاعها على نحو غير مسبوق، هو المظهر الوحيد الذي باتت يهدد البلدان التي ما زالت تتعامل مع التقنية بصورة خجولة وغير مواكبة، بل إن الثقافات والموروثات الحضارية باتت هدفًا للذوبان في ظل التسارع العولمي، والتقنية المنتشرة، من واقع أن هذه التقنية الجديدة قد جاءت بلغتها وأدواتها الحديثة، وبات على الراغب في التعامل معها طوعًا أو إجبارًا تعلّم لغتها، والتحاور معها بثقافتها الجديدة، بما يعني تنازلاً وإزاحة للغته التي لم تساهم في هذه التقنية. ولم تكن اللغة العربية استثناء في هذا المجال، فقد باتت تهددها عوامل التعرية من جوانب عدة في ظل الخمول عن إنتاج المعرفة، والاكتفاء بالنقل والاستهلاك.. ولقد تنبّهت المملكة العربية السعودية ممثلة في قيادتها إلى الخطورة التي تتهدد اللغة العربية، فقدمت جهدها الكبير في دعم اللغة العربية بوقوفها الحازم أمام الغزو اللغوي التغريبي، واضعة في الاعتبار أيضًا الحاجة إلى اللغات الأجنبية بوضع معادلة لا تسمح بالطمس والذوبان، كما لا تقطع أواصر التواصل والتلاقح، ومن هذا الباب جاء دعم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - لجهود الترجمة في خطوة تحمل تفاؤلاً كبيرًا في أوساط من يهتم باللغة العربية ويعنى بها، وأصبحت جائزة خادم الحرمين للترجمة محل التقدير والحفاوة والتنافس الشريف بين الباحثين مما يبشّر بواقع أكثر.. كما قام ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز بدعم اللغة العربية في اليونيسكو، وما تم من دعم كرسي الأمير نايف لتعليم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة موسكو، إضافة إلى العديد من الدعوات من قبل حكومتنا الرشيدة للاهتمام بالتعريب كجائزة الملك فيصل العالمية للاهتمام باللغة العربية والأدب وبرنامج الأمير سلطان بن عبدالعزيز للدراسات العربية والإسلامية بجامعة بركلي، كاليفورنيا في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكذلك برنامج الأمير سلطان بن عبدالعزيز لدعم اللغة العربية في منظمة اليونسكو، وفي هذا السياق أتى توجيه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة بتعريب المحال التجارية وغيرها في منطقة مكةالمكرمة، إبان رعايته لملتقى “المثاقفة الإبداعية.. ائتلاف لا اختلاف” الذي نظمه نادي مكة الثقافي الأدبي قبل عام تقريبًا، مشيرًا في ثنايا توجيهه إلى ضرورة إحلال المسميات العربية بديلًا عن غيرها من مسميات، وإذا كانت هناك ضرورة إلى استخدام الكتابة بحروف غير عربية فلتكن صغيرة وتكون تحت المسمى العربي لا فوقه.. حيث قالها صراحة في تلك الكلمة: إنه من العيب علينا أن تكون هناك مسميات أعجمية في مكةالمكرمة مهبط الوحي وفي المكان الذي أنزلت فيه أول آية (اقرأ) وشهد ولادة آخر رسل البشرية محمد صلى الله عليه وسلم". كل هذه الإشارات وغيرها تقف دليلاً على ما قامت به قيادتنا الرشيدة من أجل حفظ مكانة اللغة العربية الحضارية، وتطوير مخرجاتها بما يتيح لها فرص التنافس في ظل المتغيرات العالمية الكبيرة، بما يستوجب جهودًا مضاعفة، لا تقتصر على القيادة وحدها بل على كافة القطاعات الأخرى من تعليم وإعلام وشارع عام، والأسر في بيوتها.. للتأكيد على مكانة اللغة العربية وحتى يعود إليها رونقها وألقها الذي هي جديرة به.. عدد من الأدباء والمثقفين والمهتمين بشأن اللغة العربية شخصوا حالة اللغة العربية اليوم في المجتمعات العربية، وقرأوا جهود المملكة في هذا الجانب في سياق هذا التحقيق..
استدخال الكلمات رؤية الدكتور سحمي الهاجري عضو نادي جدة الأدبي الثقافي أبان عنها بقوله: لغة أي أمة هي أبرز مقومات هويتها، والاهتمام باللغة دليل اهتمام الأمم واعتزازها بهويتها، وكل الجهود التي تبذل للرقي باللغة العربية وخدمتها هي جهود مشروعة ومطلوبة، بما في ذلك تعريب تدريس العلوم في الجامعات، وتعريب المسميات التجارية بما يتناسب مع التراث الضخم لهذه الأمة الذي يمكن أن ينتج مئات الألوف من المسميات الناجحة لأي نشاط من أنشطة الحياة، وهذا لا يمنع أن اللغة العربية، وهي أحد اللغات العالمية القوية بتاريخها وتراثها الضخم وتراكيبها المتنوعة، لم يمنعها من استدخال كثير من الكلمات والمفردات العالمية بدون عُقد أو إحساس بالدونية، والكل يعلم أن القرآن الكريم فيه مئات الكلمات المعربة من لغات الأمم الأخرى، التي أدخلتها اللغة العربية في قاموسها الكبير بدون أي غضاضة.
ولع وحب ظهور ويرى الكاتب حماد السالمي رئيس نادي الطائف الأدبي أن هذه المساعي جميعها، تنطلق من غيرة حقيقية على اللغة العربية الفصحى، التي هي لغة القرآن الكريم، والتي تمثل المشترك الدائم بين العرب جميعًا حتى لو تعددت لهجاتهم ولغاتهم المحكية، وبينهم وبين بقية المسلمين في العالم، أولئك الذين يقرأون القرآن الكريم باللغة العربية الفصحى. مضيفًا بقوله: لا أعتقد أن هناك تدنيًّا على المستوى الجمعي بين الناطقين باللغة العربية؛ بل إن نشر التعليم والتوسع فيه في نصف القرن الماضي، زاد من رقعة الفصحى على حساب العامية، سواء في المملكة أو في غيرها من الدول العربية؛ لكن الاهتمام بصحة النطق بالفصحى على كافة المستويات العلمية والعملية والإعلامية، هو الذي لم يواكب التوسع في تعليم العربية، ولم يعكس حرص المتعلمين على التمسك بلغتهم التي تشربوها في صغرهم، وتعلموها في مدارسهم. ويمضي السالمي في حديثه مضيفًا: أما عن الانبهار بلغة أخرى في حياة الناس فهذا أمر طبيعي، خاصة ونحن نعيش عالمًا منفتحًا لم يكن مألوفًا من قبل. نعم هناك ولع متبادل بين اللغات في العالم، لعله عائد إلى حب الظهور والتفاخر، ويعكس ثقافة الانفتاح على الآخر، وهو لا يشكل خطرًا كبيرًا على اللغة العربية، لأنها محفوظة بالقرآن المنزل من رب العالمين، ولأنها باقية ما بقي هذا الدين إلى يوم الدين فإذا تحول الولع بلغة غير العربية في منبع ومهد العربية، إلى تمظهر وتظاهر على اللغة الأم، فهنا وجب التدخل لوقف هذا الزحف الذي تقوده الشركات العالمية، لأنها الوحيدة التي تسوق منتجاتها في أقطار العالم. هذا ما فعله الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة في توجيهه بتعريب المحال التجارية والشوارع والميادين، لأن الأمر بدا وكأن العربية أخذت تتوارى خلف أسماء وعناوين غريبة قادمة من قارات العالم، كما أعتقد أنه من الواجب التعامل مع هذا التوجيه انطلاقًا من غيرتنا على لغتنا، فنعمل جهدنا على أن تكون لغتنا في المقدمة، ونحرص على تبني النطق بالفصحى في كافة المنابر والمنتديات الأدبية والثقافية والإعلامية، ونتصدى بالفصحى أيضًا للقنوات الشعبية التي تروج للعامية وكأنها لغة الأدب والشعر والحياة.
استلاب وانبهار مشاركة الدكتور عبدالله بانقيب نائب اللجنة الثقافية التابعة لنادي جدة الأدبي الثقافي بمحافظة القنفذة جسّدها في قوله: إذا أردت أن تقيس المستوى الفكري لأي أمة فانظر إلى مستوى لغتها التي تعبر بها عن حاجاتها، فاللغة دالة على درجة البناء الفكري؛ لأنها أداة الفكر وحامله بل هي الفكر ذاته. والدعوات التي تناشد إحياء لغة الأمة الأصيلة تهدف إلى تأسيس الفكر الأصيل، وتوطد خصوصية الأمة، وتحيط هويتها بسياج يحفظ لها شخصيتها المستقلة وكيانها الخاص دون أن يكون في ذلك انغلاق على الذات أو ذوبان في الآخر، ويبقى التلاقح البشري النافع سمة الأمة الحضارية الراشدة التي تعي أخذ ما يتلاءم مع حاجاتها الفكرية والثقافية، وترك ما يتعارض مع ذاك. لذا كانت دعوة سمو أمير منطقة مكةالمكرمة منطلقة من هذا المبدأ ومتأسسة عليه. ويتابع بانقيب حديثه بقوله: والذين وقعوا تحت وطأة اللغات الأجنبية واستعمالها في غير موقعها واقعون دون شك تحت استلاب الآخر والانبهار بمنجزاته العصرية التي عجزنا في هذا العصر عن المساهمة في تشييدها، وتراجعنا عن الدور المناط بنا في إعمار الأرض. وهذا الاستلاب أحد أهم المؤشرات الدالة على الفجوة التي تفصلنا عن مهمتنا الحضارية والمعلق علينا كأمة وُصفت بالخيرية وهداية الناس. والخروج من ذلك لن يتأتى إلا بنهضة شاملة تأتي على كل الجوانب الفكرية والثقافية والحضارية ثم تكون اللغة لباس تلك النهضة وصورتها ومجلاها المبين عنها. ولعل من الخطوات التي يمكن أنْ تسهم في الدور المناط بنا إشاعة ثقافة الأمة اللغوية خاصة وأنها تمتلك رصيدًا لغويًا عظيمًا يمكّنها من ذلك ويحقق لها التواءم مع كل المستجدات العصرية. ولعل دعوة تعريب اللغة والشوارع والأماكن والمحال والميادين العامة هو خطوة في هذا الاتجاه يجب أن تدعمها المؤسسات التعليمية والثقافية، وأن تأخذ على عاتقها توسيع رقعة هذه الخطوة؛ لتشمل كل المناشط التي تحتويها؛ ليكون الجيل على قدر عظيم من الاعتزاز بهويته وخصوصية أمته، خاصة إذا وضعنا نصب أعيننا أن اللغة من أهم ما يعبر عن تلك الهوية ويجلي تلك الخصوصية.
التعريب بديلاً عن التغريب الدكتور مبارك المعبدي عضو التدريس بكلية المعلمين بجدة وعضو اللجنة الثقافية بمحافظة خليص شاركنا قائلاً: المساعي والدعوات الرسمية إلى دعم اللغة العربية أمر مطلوب في ظل سيادة اللغة الأجنبية في العالم أجمع؛ لذا من الواجب علينا نحن كعرب الاعتزاز بلغتنا لغة القرآن ودعمها في جميع أنشطتنا العملية والتجارية. فرغم أن تاريخ المملكة يشهد بالتزامها الديني وحفاظها الدائم على لغتها العربية وتراثها الإسلامي وهويتها المرتبطة بلغتها، إلا أننا نشاهد المفردات الأجنبية تسيطر على أسماء العديد من الشوارع والمحلات. لذا أجد ما دعا إليه سمو الأمير الفيصل بالتعريب بدلاً عن التغريب بالقرار الصائب الذي يجد المحافظة على لغتنا وتراثنا وهويتنا العربية. وعن السبب في تدني مستوى اللغة العربية والاهتمام بها يضيف المعبدي بقوله: تعد ظاهرة تدني مستوى اللغة العربية نتيجة لعدة أسباب أولها انتشار العامية في الوطن العربي، واختلاف اللهجات، وعدم قوة المناهج في المدارس عند الطلاب، وعدم استخدام مدرس اللغة العربية للغة الفصحى في حصص اللغة العربية مما له الأثر السلبي على الطالب. ففي الدول الأجنبية الغربية توجد اختبارات لغوية معقدة لابد من اجتيازها من جميع الطلبة لمواصلة الدراسة وذلك لاهتمامهم بلغتهم. أيضًا لا ننسى وجود الدخلاء على اللغة العربية من العمالة الأجنبية الذين يعبثون في لغتنا ومفرداتنا كيفما شاءوا بمباركة ومشاركة من المواطن. ويختم المعبدي متناولاً أسباب الانبهار بالكلمات والمفردات الأجنبية بقوله: من وجهة نظري أرى أن الإعجاب بالكلمات الأجنبية ليس إلا مواكبة للعصر على حسب فهم المنبهر والانقياد تحت ما يسمى بالغزو الفكري ومن الممكن يكون في اعتقادهم أن الاسم الأجنبي يوجد فيه من التميز ما لا يوجد في لغتنا، وهذا مفهوم خاطئ؛ فاللغة العربية قوية بمعانيها رائعة بمفرداتها، وأصحاب القرار على دراية كاملة بآلية التنفيذ ومن باب المشورة العمل على تعريب المحلات الكبيرة والمؤسسات المشهورة وفرض العقوبات عاجلاً غير آجل على المخالف للأنظمة الجديدة، واتخاذ أسلوب الإقناع في تغير الاسم.