-1- إن القطيعة المعرفيّة لدَى مَن تحدّث عنها مِن الفلاسفة ولاسيما الفرنسيّ (جاستون باشلار Gaston Bachelard، 1884- 1962)، هي في مجال العلوم البحتة، لا في مجال الآداب والفنون. وكُتب باشلار، في هذا السياق، إنما تدور على العِلْم، ككتبه: «تكوين العقل العِلْميّ»، و«العقلانيّة التطبيقيّة»، و«الفكر العِلْميّ الجديد»، و«الماديّة العِلْمية»، وهلمّ جرّا. ففي العِلْم يمكن، بالفعل، أن تكون هناك قطائع معرفيّة، بما أن العِلْم قائم على الاكتشافات، والاختراعات، وعلى معالجات الآلة الماديّة؛ ولذلك فالعِلْم تاريخ من الحقائق المتعاقبة الظهور، وتاريخ من تصحيح الأخطاء، قد يَجُبّ جديدُه قديمَه، وهذا ما يميّز تاريخ الفكر العِلْميّ(1). وما كذلك الأدب وتاريخه. وذلك، إذن، هو ما يجعل حِقبةً عِلْميّة في قطيعة عمّا قبلها، فلا تُعَدّ استمرارًا لها، بالضرورة. وإن كانت القطيعة، حتى في مجال العلوم، غير تامّة بإطلاق؛ من حيث إن التاريخ النظريّ والسيرورة التساؤليّة يظلاّن إرهاصًا في نموّ العقل البشريّ، بما يُفضي إليه العِلْم في لحظاتٍ تاريخيّةٍ من قفزات نوعيّة مستجدّة. ولولا ذلك التاريخ وتلك السيرورة، وما يحقِّقانه من نُمُوٍّ عقليٍّ وتظافرٍ معرفيّ، لما كانت تلك القفزات العِلْميّة قط. وهذا ما يؤكِّده الفيلسوف السويسريّ (جان بياجيه Jean Piaget، 1896- 1980) في ذهابه إلى أن المعرفة سيرورة، لا واقعة(2). ومن ثَمَّ فمسألة القطيعة قضيّة جدليّة حتى في مجال العقل والعِلْم، وهي حتى في هذا المجال إنما تتمثَّل لدَى القائلين بها في معرفةٍ عِلْميّةٍ لما لم تكن متاحةً معرفتُه بأدوات الماضي، أو في معالجةٍ علميّة ما، بأسلوبٍ لم يكن معهودًا من قبل. وإنما جاءت فلسفة باشلار القائلة بالقطيعة المعرفيّة ردّة فعلٍ تفسيريّة للقفزات العِلْميّة غير المسبوقة التي حَدَثَت في غضون القرن العشرين. صحيحٌ أن للثورات العِلْميّة العظمى تأثيرات على البنى الاجتماعيّة والفكريّة والفنّيّة، غير أن الاختلاف النوعيّ والوظيفيّ للآداب والفنون عن العلوم البحتة لا يسمح بحدوث قطائع في الآداب والفنون نظيرة لتلك التي تحدث في العلوم؛ وذلك لما أُشيرَ إليه من ارتباط الآداب والفنون بالهويّة وبروح الأُمّة، في أبعادها الإنسانيّة المختلفة، ثم لارتكازها بشكلٍ جوهريٍّ على الذاكرة والتمثّل التراثيّ والمعرفيّ، لا على الحقائق المعلوماتيّة المجرّدة، الحادثة، هنا والآن. ولقد حدّد باشلار عقبات عقليّة تقف دون تقدّم المعرفة، يمكن أن تَصْدُق على النقد الأدبيّ، بوصفه ممارسة علميّة، ومنها: عقبة الماضي غير المختبَر، وعقبة التعميم، وعقبة الألفاظ غير الدقيقة في دِلالاتها(3). وهي عقباتٌ تؤدّي إلى مزالق في المفاهيم والمصطلحات. ومن ذلك التعميمِ، ومن ذلك الاستعمالِ غير الدقيق للألفاظ، استغلالُ نظريّة باشلار نفسها في القطيعة المعرفيّة للقول بالقطيعة في حقول أخرى غير عِلْميّة، وإطلاق مصطلحها إطلاقًا غير منضبط عِلْميًّا، بل كيفما اتّفق، ثم توظيفه توظيفًا مِشْجَبِيًّا، كما هو الحال لدَى المدافعين عن بعض أنماط النتاج الأدبيّ العربيّ الحديث، حينما يعلِّقون عَدَمِيَّتَه وعِيَّه وخواءَ تأسيسه على دعوى «القطيعة المعرفيّة»، ونحوها من الدعاوَى الجوفاء. إن للشِّعر معادلةً دقيقةً بين الصدق والتكلّف أو بين ما أسماه القدماء: «الطَّبْع» و«الصَّنْعة» لا يُحسِنها إلّا الشاعر الشاعر، ومَن لم يُفلح في ضبط موازينها، خاب وخسر. والتحدّي الإنسانيّ والحضاريّ (في كلّ شيء): كيف نُوَفِّق بين جماليّة الفطريّ وتهذيب الحضاريّ؟ ولا يَنِدّ الشِّعر عن هذه القاعدة، بحالٍ من الأحوال. -2- في مثل هذا السياق جاءت محاضرتي في (اتحاد الكُتّاب والأدباء في الإمارات العربيّة المتّحدة)، في الشارقة، الثلاثاء 12 أبريل 2011. وكنتُ قبل هذه الأمسية قد قدّمتُ أمسية نقديّة في (بيت الشِّعر بمركز زايد للدراسات والبحوث بنادي تراث الإمارات)، في أبي ظبي، الاثنين 11 أبريل 2011. ولقد لمستُ الفارق بين الأمسيتين؛ ذلك أن أمسية (بيت الشعر) كانت -للمفارقة- حول «القِصّة القصيرة جدًّا»، وأمسية الشارقة كانت حول «قصيدة النثر، والنَّثْرِيْلَة». وفرقٌ بين الأمسيتين وجمهوريهما؛ فالحالة الأخيرة كانت حالة قصيدة نثر، ربما تُجَسِّد واقعيًّا وحضاريًّا مقولة (سوزان برنار): إنه «من المؤكّد أن قصيدة النثر تحتوي على مبدأ فوضويّ وهدّام». وقد ذَهَبَ أحدهم يكتب في صحيفة «الخليج»- معقل المبدع محمّد الماغوط العتيق!- ولمغزًى ما أُعيدَ نشر ذلك في صحيفة «الرياض» أنه «رغم أنه كان من المفترض أن يقدِّم الباحث شرحًا دقيقًا ووافيًا لمقوِّمات هذا الشكل [قصيدة النَّثْرِيْلَة]، وعناصره، وجماليّاته، وتاريخه، فقد استغرق في البحث في قضايا تتعلّق بقصيدة النثر، معيدًا القول فيما أصبح معروفًا ومتداولًا حول نشأة هذه القصيدة ومشروعيّتها ورموزها». وكاد المُريب أن يقول خُذوني! فهو تعليق -وأنقله هنا كما هو- ظاهره منهاجيٌّ، وإن جافَى الحقيقة، حريصٌ على «الشرح الدقيق والوافي!»، ولعلّ باطنه ضِيْقٌ دفين بإعادة الحديث عن قصيدة النثر! وإلّا فإن تأصيل التحوّل من «قصيدة النثر» و«التفعيلة» إلى «قصيدة النَّثْرِيْلَة» -أي: النَّصّ المزدوج (النثريّ والتفعيليّ)- هو أمرٌ ضروريٌّ منهاجيًّا. كما أن الأمر لا يتطلّب فضلَ شرحٍ وتدقيقٍ، لما نشرتُه منذ سنوات حول ما أسمّيه النَّثْرِيْلَة، في السعوديّة والكويت والإمارات. غير أن بيت الداء هنا قد يكمن في: التأذّي من نبش تاريخ قصيدة النثر، أصلًا. وهو خطابٌ ألِفناه فسئمناه، يكرِّر إسماعنا اسطوانته، التي يبدو أنهم يحفظونها جميعًا، وعن ظهر قلب، ويتواصون بها، إزاء أيّ مقاربة تَطرُق هذا الباب من جديد، بحُجّة أن الأمر «أصبح معروفًا، ومتداولًا...»! ولسان حال القائل: «... ومسلَّمًا به». بل منهم من يقول هذا، فعلًا، في منطقٍ غريب. فبما أنه قد مَرَّ زمنٌ طويلٌ على هذا اللقيط الشِّعريّ، وأصبح معروفًا، ومتداولًا، فكُفُّوا ألسنتكم عنه، «تُكْفَوْنَ ياعرب»! لقد اكتسب حصانةً من النقد والمراجعة، إذن، في نظر هؤلاء، أو في مغالطتهم، وسَقَطَت محاكمته بالتقادم؛ وعلينا، هنا، الرِّضَى بالأمر الواقع.. الواقع بالفعل! وبذا يتعرَّى ثقافيًّا نسقُ العادات والتقاليد لدينا، فما مَرَّ عليه ردح من الزمن، وتواطأ عليه طائفة من الناس، فقد اكتسب مشروعيّته، وربما قداسته. إن الأعراف توظّف هنا أيضًا، فلا فرق بين عقليّتنا الاجتماعيّة الدارجة وعقليّة بعض المثقّفين، ذوي الأهواء والحوزات. هذا علاوة على أن مِن هؤلاء، بطبيعة الحال، مَن قد لا يأتون إلّا لينافحوا عاطفيًّا -وبعقليّة «الفزعة» الفئويّة- عن تجاربهم هم، قبل أيّ شأنٍ آخر، أدبيّ أو نقديّ، ممّا يمكن أن يَحتَكِم إلى ضوابط العِلْم والمنهج، معتمرين لغةَ المديح لبعضهم والهجاء لخصومهم! إنه الوقوف، جبهةً واحدةً، للصمود والتصدّي ضِدّ العدوّ المشترك، حتى لربما حَضَرَ أحدهم ندوةً ما بوصفه مندوبًا ساميًا عمّن وراءه من رعايا ومليشيّات. وهذا أمرٌ يثير الرثاء حقًّا، لا لحال الشِّعر والنثر، بل بالأحرى لواقعنا الثقافيّ والأخلاقيّ المريض، المتهالك على كلّ الجبهات. -3- على أن الالتزام بأصوليّة الشِّعر لا يعني التكلُّف النظميّ البارد، الذي كانت أسوأ نماذجه في تلك المخمّسات، والمسدّسات، والشِّعر الهندسي، والمشجَّرات، ونحوها، من تلك الأنماط المحمَّلة بأوزارٍ من زينة القوافي، والمحسِّنات، وزخارف الكلمات الفارغة من الإحساس وصِدق التعبير. وهو أسلوبٌ شكلانيٌّ شاع في قرون الانحطاط الشِّعريّ، وامتدّ إلى مشارف العصر الحديث، وأوغل في بعض نماذجه التقليديّة شعراء كُثر؛ إذ يتحوّل النصّ إلى معادلاتٍ رياضيّة من القوافي والكلمات المتقاطعة. وبذا يُسرف في تحويل الموسيقى إلى غاية للنصّ، لا وسيلة شِعريّة فيه. ولقد يَفْتِن الشاعرُ بهذا الضربِ من التأليف بعضَ مَن تفتنهم موسيقى الكلمات دون معانيها، وأشكالُها دون مبانيها، وجَرْسُها دون رؤاها، ودهشةِ ما تُعَبِّر عنه من دلالات وتجارب. وأنت حينما تتأمّل تلك النماذج ستجد بعضَها فاتنَ الكلمات بالفعل، إلّا أنه يكاد يكون خواء من الروح، ضحلًا في مستوى تأثيره الذهنيّ أو النفسيّ في متلقّي الشِّعر للشِّعر. وسيظهر ذلك النَّظْم، بسبب نظميّته تلك، نموذجًا على رَصْف الكلمات السراب، الذي تَغرق الرؤى فيه ويَختنق الصدقُ، في خِضَمٍّ من رنين الحروف؛ فإذا النصّ يبدو كامرأةٍ أسرفت في الأصباغ والألوان، ورَسَفَت في الحلى والجواهر، حتى لم تَعُد تراها، بل لم تَعُد تدري: ما هي؟! إنْ لم يمجّها ذوقك الإنسانيّ مَجًّا وهي بحالتها تلك، تتماوج كمَعْرِضٍ متحرك من التلألؤ والخشخشة، وربما اعتلّت أو ماتت بما كلّفت به نفسها. وإلّا أيّ نصّ شِعريّ يمكن أن يظلّ حاملًا روحًا صادقة وهو مرصّع بكلّ تلك القوافي، يتألّف -كما في أحد النماذج الحديثة المغنّاة المشهورة- من مطلعٍ في بيتين مصرّع أوّلهما، يتلوهما بيتان مصرّعة أشطرهما كلّها، ثم بيت مصرّع، يُصبح لازمةً تتكرّر في تضاعيف النصّ، يتلوه كذلك بيتان، مصرّع أوّلهما، ثم بيتان مصرعة أشطرهما، ثم بيت مصرّع، ثم بيتُ اللّازمة، ثم ينقلب التركيب في بيتين مصرّعة أشطرهما، فبيتين مصرّع أوّلهما، ثم بيت مصرّع، ثم بيت اللّازمة... وهكذا! ليُصْرَع الذوقُ والقارئ والسامع بهذا التركيب المصطنع، الذي لا هو بالقصيد، ولا بالموشح، ولا بشعر التفعيلة، وإنما هو أقرب إلى سجع الكهان. هنا، في مثل هذا القَشّ البنائيّ المزبرق، يتحوّل العملُ إلى تأليف قوافٍ، وإلى لُعبة نَظْمٍ، لا شِعر. تُرى ما الذي بقي -مثلًا- من ديوان شاعرٍ كإيليا أبي ماضي من شِعرٍ يستأهل هذا الاسم، لولا قصيدة «الطلاسم»؟! ليس هنالك غالبًا سوى نظميّة ضعيفة الشِّعريّة، ولولا «الطلاسم»، لكان ديوانه مؤلَّفًا من الأوزان والقوافي، واللَّعِب العتيق بالكلمات. وقِسْ على ذلك غيره وغيره؛ فالنظميّة، إذن، لا تُبَرِّر الشِّعر، بحالٍ من الأحوال. إن الإسراف في الصنعة ضِدّ الشِّعر، إذ يُثقِل النصّ بما يُذهب ماء شِعريّته، ليغدو كما قيل قديمًا في شِعر بعض المحدثين القدامى، لعلّه ابن المعتز -وكان رائد فنّ البديع الشِّعريّ- ما معناه: إنه كالريحان تشمّه فيعجبك، لكنه سرعان ما يذبل في يدك، فترميه! غير أن ترك الصنعة الفنيّة الشِّعريّة بالكلّية تَطَرُّفٌ مقابل، وانحطاطٌ فنّي نظير، ينتهي بالشِّعر إلى النثر. بل إن للنثر نفسه صنعته ونظميّته الخاصّة، وقد فَصّل القول في هذا تفصيلًا (عبدالقاهر الجرجانيّ) في «نظريّة النَّظْم»(4). ولذا فإن قصيدة النثر نفسها -وبقطع النظر عن رداءة المصطلح- هي ذات قواعد، وليست هلهلةً نثريّة خالصة، كما يُخيّل إلى بعض الناشئة، ومَن في حُكمهم. (1) انظر: شربل، موريس، (1986)، التطوّر المعرفيّ عند جان بياجيه، (بيروت: المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع)، 11. (2) وهو ما تطرّق إليه بياجيه في كتابه «الإبستمولوجيا التكوينيّة»، أو «جينات المعرفة»: Lépistémologie génétique. وكذلك انظر نقده لكلود ليفي شتراوس وميشيل فوكو، في الفصل السابع من كتابه: ((1985)، البنيويّة، تر. عارف منيمنة وبشير أوبري، (بيروت- باريس: عويدات)، 97- 109). (3) انظر: باشلار، جاستون، (1996)، تكوبن العقل العلميّ: مساهمة في التحليل النفسانيّ للمعرفة الموضوعيّة، تر. خليل أحمد خليل (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر)، في عدّة فصول منه. (4) انظر في هذا بحثنا بعنوان «الإشارة- البنية- الأَثَر: (قراءة في «دلائل الإعجاز» في ضوء النقد الحديث)»، بحث محكّم شارك الباحث به في مؤتمر جَرَش للنقد الأدبي، جامعة جَرَش، الأردن، 2000، ثم نُشِر في (مجلّة «جذور»، النادي الأدبي الثقافي بجُدّة:، عدد 4، مجلد 2، سبتمبر 2000، ص ص 7- 32). * ناقد وأكاديمي