عندما نذكر فضائل رمضان، نعرّج لزومًا على ما هو معروف مذكور على الدوام عبر السنين: أنه شهر تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب النيران، وتُصفّد الشياطين، ولله فيه عتقاء من النار، وذلك كل ليلة، وفيه ليلة هو خير من ألف شهر، والصوم نفسه عمل اختصه الله تعالى لنفسه، فهو يجزي عليه جزاء لا حد له، أو هو العمل الذي لا يُمس يوم القيامة بالنقص والأخذ من حسناته، لمن قلّت حسناته عن الوفاء بما عليه من دين المعصية. كل ذلك رحمة واسعة لا ريب، يزين بذكرها الشهر، ويختال لها رمضان، لكن وراءها رحمة هي سر من أسرار الرب تعالى في خلقه، ربما هي التي حركت كل هذه الفضائل فنثرتها بين يدي الصائمين؛ رحمة تتعلق ب"الجانب القدري" في الإنسان، الجانب الذي لا يملكه في تصرفاته، ويجد نفسه عاجزًا عن تفسيره ربما، أو معرفة سره. سأشرح ذلك.. هذه الأجور العظيمة، ترتبت على القيام بالأعمال الصالحة، من: صيام، وقيام، وقرآن، وزكاة فطر، وصدقة، وتوبة، واستغفار، وذكر، مع الكف عن المفطرات والمحرمات. فهذان شرطان لاستحقاق الرحمة الرمضانية: عمل صالح، وكف عن الممنوعات. الجانب المهم هنا، والذي سمّيناه ب "الجانب القدري"، هو ما يجده الصائم -في رمضان خاصة- من "طواعية نفسه" للقيام بكل هذا، ما لا يجد مثلها قبله ولا بعده. يقبل الناس على المساجد، والفرائض، والنوافل، والطاعة، بما لا نظير له في أشهر السنة الأخرى، ألم يسأل أحد نفسه: من أين أتت "طواعية النفس" هذه، ولينها، وانقيادها التام لسلوك طريق الله تعالى برضا ورغبة تامة، دون ضجر ولا ملل؟!. حتى أكثر الناس عنادًا وتفريطًا، يعودون كالبعير المعبد المنقاد، فيتلاشى عنادهم وتفريطهم، وتململهم وسأمهم من الطواعية لله تعالى رب العالمين!. لا نجد لذلك جوابًا: إلاّ محض القدر والرحمة يزرعها الرب سبحانه في نفوس وقلوب المؤمنين في رمضان خاصة، لا يدركون لذلك سببًا سوى بركة شهر مبارك سرى إلى قلوبهم وأبدانهم وعقولهم. إنها رحمة كبرى تحمل الإنسان بكل يسر وسهولة، فلا يجد للعبادة مشقة، ولا للمعصية ميلاً ورغبة، يطير بالرضا والمحبة، تلك المحبة التي تحدثنا عنها فيما سبق، التي تخفف السير إلى الله تعالى، وتحليه وتزينه في القلوب. هذا الجانب قدري في الإنسان؛ بمعنى أنه يحصل له من دون اختياره، ولا استحقاق سابق، بل محض فضله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكّي مَن يشاء والله سميع عليم). اختص بعض عباده للرسالة، بغير اختيار منهم، فوجدوا "طواعية النفس" لتحمّل أعبائها، بما فيها من قول وحمل ثقيل: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً). واختص بعض عباده للإيمان، بغير اختيار منهم، فوجدوا "طواعية النفس" لجهاد نفوسهم: (ولكنّ الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم). كذلك اختص من عباده لصيام رمضان، وسهل عليهم وأعانهم، فبدد ضعهم وشقوتهم، وأبدلهم قوة ورغبة، فالقربات تواتيهم من غير كلفة، بل تسري في عروقهم كما يسري الدم، هذا طبيعة الجسد، وهذه طبيعة النفس في رمضان. تلك رحمة لا نلتفت إليها، ولا نتدبر أسرارها!!.. كيف لو أنه تعالى ترك الناس في رمضان من دونها، فوكلهم إلى نفوسهم، فلم يسهّل، ولم يطوِّع، ولم يليّن القلوب؟. هل كنا نجد الزحام في المساجد، وعند بيوت الفقراء، وهذا التعاطف بين الناس؟. وقد ترك لنا في هذا آية!. قوم سودوا صحائفهم الإساءة والعناد، وتمرّدوا وكرهوا أن يرضوا الرب سبحانه، ولم ينتفعوا بتصفيد المردة من الشياطين، حتى استحقوا الحرمان من الرحمة في هذا الشهر، فلا أثقل على نفوسهم منه وممّا فيه، من أعمال إيمان، وصيام، وقيام، وزكاة. يفطرون سرًّا إن خافوا، وعلنًا إن أمنوا، ولا يقيمون قربة ولا طاعة، ولا يجدون في نفوسهم كفًّا ولا امتناعًا، أو إعراضًا عن المحرمات، بل يتزودون منها ويتكثرون في رمضان خاصة أكثر من غيره، فيملأون فيها السماء والأرض من الفساد، وأنتم ترونهم اليوم أكثر من كل يوم سبق، في قنوات التفسّخ والتعرّي. ما ذلك إلاّ لحرمانهم الرحمة بجانبها القدري "طواعية النفس" وانقيادها لأمر الله تعالى، لما سبق منهم -وفي علم الله تعالى- من أعمال شقية، بغير ندم ولا توبة، بل بإصرار واستكبار، فعاقبهم الله تعالى، فكانوا كما قال عن المنافقين في سورة التوبة: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون. ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين. لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاّ خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم والله عليم بالظالمين). * * * هذا السر من الأسرار الإلهية في العباد، يكشف لنا جانبًا مهمًّا وخطيرًا من جوانب الحكمة الإلهية، وهو جانب "الهداية والإضلال". كم من مرة ذكر في القرآن: أن ذلك لله تعالى وحده، فقال: - (يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم). البقرة: 142، 213، 272. النور: 46. - (ولكن يضل مَن يشاء ويهدي من يشاء). النحل: 93. - (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء). فاطر: 8. - (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء). المدثر: 31. إن الله تعالى يأخذ بيد مَن يشاء، فضلاً ونعمة ومنّة، ويدع مَن يشاء عدلاً وتملكًا، فالإنسان فقير إليه في كل شيء، وأعظم ذلك: إلى هدايته. فالهداية منه محض فضل، لم يستحقه أحد عليه تعالى بشيء، كما في الأثر: (إن الله لو عذّب أهل سمواته، لعذّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم). كذلك التوفيق والسداد منه، والتعثّر والفشل من تركه الإنسان لنفسه. ربما خطط الإنسان لأعمال كثيرة، فاستعمل السنن الكونية، وسار عليها دون انحراف، فنجح في كثير منها، لكنه في مرات يجد شيئًا غريبًا!. يقدم كافة الخطط الصائبة للعمل، ويعمل بها، ثم لا ينجح، فيقف عاجزًا عن معرفة علّة الفشل، مع بذله كل ما يظن أنه سبب صحيح للنجاح. العلّة تكمن في العون والتوفيق الإلهي، التي تدل الإنسان على خفايا في عمله، يهتدي إليها بيسر وسهولة؛ لأن التوفيق يأخذه ويظله بظلال من التنبه والتذكر والإحاطة. أو حتى تخرق له العادة، فتنقلب الأمور فتأتي على غير حسبانها، وهو تعالى قادر؛ أبطل علة الإحراق في النار، حتى انقلبت في حق الخليل إبراهيم عليه السلام بردًا وسلامًا. وهذا ما نراه في بعض الناس؛ يعمل بلا تخطيط صحيح، ويؤدّي أعمالاً ساذجة دون أن يحسب لما يستقبل، ثم لا تجد معه إلاّ النجاح والتوفيق. إنه يرعاه الله تعالى بتوفيقه وكلاءته، فيحمله ويطير به إلى التفوّق، ولو تعثر بخططه: (قل مَن يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن). فإذا ما فشل وتعثر؛ فقد تخلّت عنه رحمة الله تعالى لأمر وسبب ما، قد نعلمه عينًا، أو لا. كل هذا التوافق مع السنن والانقلاب عليها، ليعلم الناس: أن القوة لله وحده، وأنهم مهما بدا لهم، أنهم يدبرون أمورهم بأيديهم، يقيم الله لهم شاهدًا من حالهم، أن التدبير له وحده، وأنه عندما يوالي في نجاحات قوم اغتروا بخططهم، فظنوا أنهم ملكوا الأرض بمفاتيحها، يخالف عليهم حالهم، ويفسد عليهم أعمالهم بأمر يسير لم يفطنوا إليه، ولم يقدروه حق قدره، كما أفسد على قوم سبأ سدّهم العظيم، المحصن تحصينًا بليغًا، بمخلوق صغير في حجم فأرة. (قل إن الأمر كله لله). خلق الإنسان، وهدايته وضلاله.. توفيقه وفشله.. إقباله وإدباره، كل أموره إلى الله تعالى، فإذا أحسن الطلب والتملق، أعطاه فوق ما يرجو، وسهّل كل شاق، وإن استغنى استغنى الله عنه: (ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم. ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد).