تُرى هل كان المشهد العربي في ليبيا، واليمن، وسوريا سيتغيّر، لو قَبِل الرئيس المصري السابق حسني مبارك بفكرة الخروج الآمن، ووافقته جماهير ميدان التحرير؟! سؤال افتراضي، قد يساعد على فهم ما حدث ويحدث في طول العالم العربي وعرضه، فالإصرار على ملاحقة مبارك بعشرات القضايا من الفساد المالي، إلى الفساد السياسي، إلى قتل المتظاهرين، وما لحق بالرجل وبعائلته قد أرسل إشارة تحذير حمراء إلى قيادات عربية تواجه في بلادها ذات الشعار الذي رفعته الجماهير في ميدان التحرير: «الشعب يريد إسقاط النظام». لكن آلية سقوط مبارك، ومن قبله الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وما تبع السقوط من ملاحقات، كل ذلك أدّى إلى عرقلة إيقاع التغيير في ليبيا، واليمن، وسوريا، فالقادة المطلوب الإطاحة بهم باتوا بحاجة ماسّة إلى ضمانات بعدم الملاحقة، ولأن الضمانات غير أكيدة، وغير مضمونة، وتحتاج هي ذاتها إلى مَن يضمنها، فإن أحدًا من القادة المعنيين لم يقبل بها، وإن تمنّى في لحظات عصيبة أن يظفر ولو ببعض منها. وبرغم تفاوت سيناريوهات الثورة في البلدان التي تعصف بها رياح التغيير، فإن ثمة خطوطًا عامة يبدو أن ثمة اتفاقًا ضمنيًّا عليها بين الشعوب التي تنشد التغيير، وبين القادة الذين يمانعون في حدوثه، فعناوين الشكوى واحدة تقريبًا في مصر، وسوريا، وليبيا، واليمن، وتونس، كل الشعوب كانت تشكو من الاستبداد، وكلهم كانوا يتطلعون إلى التغيير بعد حكم امتدّ إلى أكثر من أربعين عامًا للقذافي في ليبيا (يحكم منذ سبتمبر 1969)، ومثلها تقريبًا لعائلة الأسد في سوريا (تحكم منذ عام 1970)، فيما امتد حكم الرئيس السابق حسني مبارك في مصر لأكثر من ثلاثين عامًا، عدا ستة أعوام قبلها أمضاها نائبًا للرئيس السادات، بينما امتدّ حكم الرئيس اليمني علي صالح قرابة ثلاثين عامًا، وأمضى الرئيس التونسي السابق نحو ثلاثة وعشرين عامًَا في حكم تونس، ومازلت أذكر عبارة بليغة قالها رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا أثنار عقب فوزه في الانتخابات لفترة حكم ثانية من أربع سنوات، فقد سأله الصحافيون عقب إعلان فوز حزبه بالانتخابات: هل تعتزم خوض الانتخابات لفترة ثالثة من أربع سنوات؟ فأجاب بحكمة الشباب: «كلا.. فبعد ثماني سنين في الحكم يصبح لديك المزيد من السلطة.. والقليل من الحماس، وهذا خطر ....»! تخيّلوا معي رئيس حكومة منتخبة ديمقراطيًّا في إسبانيا تخضع طول الوقت، وعلى مدار الساعة لرقابة صارمة من برلمان متحفز، ورأي عام لا يرحم، ونظام قضائي مستقل، ومنظمات مجتمع مدني متوثبة، وإعلام لا تفوته شاردة ولا واردة، ومع ذلك فهو يخشى على نفسه.. من ماذا؟! من تزايد سلطته، وتراجع حماسه كرئيس للحكومة!! لكل ما سبق رفعت شعوب التغيير في ساحات التحرير شعارًا واحدًا هو: «الشعب يريد تغيير النظام»، كلهم لديهم مشروع واحد فقط، يتفقون فيما بينهم على ما ينبغي هدمه، لكنهم مع الأسف لا يتفقون فيما بينهم على ما ينبغي بناؤه، يعرفون ما لا يريدون، ولا يعرفون ماذا يريدون! لكنْ ثمة أمر لافت آخر في المشهد العربي الراهن، فملاحقة الرئيس المصري السابق مبارك قضائيًّا، ثم ما قِيل عن ملاحقة نظيره التونسي بن علي، جعل معارك التغيير في سوريا، وليبيا، واليمن أكثر شراسة، فالتنحي، أو السقوط سوف يعني الملاحقة القضائية، التي قد تعني بدورها أحكامًا قضائية بالغة القسوة، قد تبلغ حدَّ الإعدام، ولعل هذا يفسر سر شراسة المعارك في تلك البلدان بين النظام من جهة، وبين قوى التغيير من جهة أخرى، وإن كانت ثمة فروق بين بلد وآخر باختلاف الظرف، أو الثقافة هنا، أو هناك، فإن ثمة مشاهد واحدة تكررت في غير بلد عربي، تحمل أدلة في غير موضعها على وحدة العرب، برغم اختلاف المسميات في بعض الأحيان، ف(البلطجية) الذين استعان بهم النظام في الحالتين المصرية، والتونسية، ليبطشوا بالمتظاهرين دون أن تتلوث أيدي النظام في البلدين، ظهروا في سوريا باسم (الشبّيحة)، وفي اليمن باسم (البلاطجة)، وفي ليبيا باسم (البلطجية)، وفي كل الحالات العربية من تونس، وحتى اليمن بدا أن ثمة قانونًا واحدًا يحكم المشهد، ويرسم مجراه ونهاياته، فالبداية تظاهرة سلمية يتصدّى لها الأمن بالقوة، ثم بالبطش، ثم بالبلاطجة، أو الشبيحة، ثم بالرصاص الحيّ، وفي كل مظاهرة تسعى الأجهزة الأمنية لاستخدام القوة على نحو يستهدف ترويع المتظاهرين، وإقناعهم بالإقلاع عن التظاهر، فيما يفتش المتظاهرون بينهم عن «القتيل رقم واحد» الذي حل في الثورات الشعبية العربية محل «البيان رقم واحد» في عصر الانقلابات العسكرية العربية، وهكذا فما أن يسقط القتيل رقم واحد حتى تشرع الجماهير الغاضبة في المطالبة بملاحقة القاتل، وكلّما زاد عدد القتلى اشتعلت الاحتجاجات، وتحوّلت إلى ثورات يجري تصعيد إجراءات التصدّي لها من قبل السلطات، حتى يبلغ التصعيد أشدّه، وعندها تتحقق مقولة إنه «عندما تلتقي الدبابة بعربة الإسعاف، فإن عربة الإسعاف هي التي تنتصر في النهاية»! حتى أدوات التواصل بين النظام وشعبه طوال المواجهات بدت متشابهة، فالرئيس الأسبق بن علي تحدّث إلى شعبه ثلاث مرات طوال أحداث الثورة، وفي المرة الثالثة، وكانت يوم الخميس قال: «الآن فهمتكم»، ثم رحل في اليوم التالي مباشرة (الجمعة)، كذلك فعل نظيره المصري مبارك، ففي خطابه الثالث أيضًا، وكان يوم الخميس أيضًا قال: «إنني أعي ما تريدون»، وفي اليوم التالي «الجمعة» كان نائبه عمر سليمان يتلو خطاب التنحي، وبينما تعدّدت وتنوّعت خطب القادة المأزومين في أزمة امتدت وطالت بعدما بدا أن ثمة نهاية لابد منها للمشهد في بلدانهم، عاد بعضهم إلى عصر الأشرطة المسجلة، والخطابات المسموعة، في مؤشر على صعوبات تقنية، أو أمنية في التواصل مع شعوبهم، فتحدّث الرئيس المصري السابق مبارك إلى شعبه عبر شريط مسجل بثته إحدى الفضائيات، ثم تبعه بأسابيع الرئيس اليمني علي صالح في خطاب صوتي مسجل عقب محاولة فاشلة لاغتياله أثناء الصلاة بمسجد في القصر الرئاسي، وأخيرًا لحق بهما الزعيم الليبي بشريط صوتي يطالب بزحف ملاييني مسالم إلى قصره لحمايته من غارات الناتو. وكما نرى فالسيناريو تقريبًا واحد في ساحات التغيير العربية.. «مظاهرات احتجاجية - بلاطجة يردون على المتظاهرين - رصاص يطلقه رجال أمن - قتلى بين المتظاهرين - طلاب ثأر يطالبون بالقصاص من القاتل - ضغوط دولية - مزيد من القتل - شريط صوتي من مكان مجهول، يفصح عن صعوبات أمنية يواجهها النظام - ثم .... قوى قديمة تخور، وقوى جديدة تفو». وأخيرًا.. عربة الإسعاف تحطّم الدبابة. [email protected]