كم أفتقدتُ الإحساس بكِ يا جدّة وطنًا منذ أن غادرك (أبي) حاملاً معطفه الرمادي، استعدادًا لمواجهة شتاء عاصمة الضباب، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي أسدلت رأسي على كتفه، وبلّلتُ قميصه بدموعي، متوسلة بقائي معه في لندن. فرد متنهّدًا بلهجتك الحجازية: «أرجعي يا بنتي» ليتنى أقوى على الرجوع. يومها آمنتُ بأنكِ مَن تسكنين أبي، بحثتُ في أعماقه فوجدتك بأهلك.. بصحفك.. بأخبارك.. بتاريخك.. أنتِ مَن عاشت داخله، رغم أناقة المكان الذي أقام فيه..! عدتُ إليك.. وأسدلتُ رأسي على وسادةٍ تخيّلتها حضنه، وناجيته بكلماتٍ سطّرتها في رسالةٍ تقول: لا للوطن.. انتماء ولا للبيت.. أمان ولا للحياة.. روح ولا للصحة.. عافية ولا للضحكة.. سعادة إلاّ بشفائك يا «بابا».. أرسلتها، فردّ وكأنه يربّت بها على كتفي مطمئنًا لعودتي إليكِ (حمدًا لله على السلامة يا حبيبي) ومن ذلك اليوم قررتُ المحاولة في أن أراكِ بعينيه، المدينة التي فضّل أن يعود إليها على أمل الشفاء في لندن، المدينة التي كان يرى أن فيها ما هو أجمل من الهايدبارك، وأعظم من قصر باكنغهام.. المدينة التي قاوم آلامه، واستحضرها، وكتبها في (مقام حجاز).. المدينة التي جعلته يُدلل كتاب (جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية) الذي أثار غِيرة بقية مؤلفاته.. المدينة التي جعلته يدوس أرضك بحنان.. يجول شوارعك عشقًا ابتداءً بأقدامه الصغيرة وحتى سيارته المرسيدس.. المدينةُ التي عاشها زوجًا محبًّا.. وأبًا حنونًا.. وأخًا معطاءً.. وصديقًا مخلصًا.. وولدًا بارًّا. فوجدتك ياجدة قد غرسته صارية عَلمٍ ترفرف حبًّا من الشمال حتى الجنوب، وجدتك نصبته عادلاً.. كريمًا.. صادقًا.. وجدت ...، ووجدت ...، ووجدت ...، ووجدت...! إلى أن عاد فوجدتك قد جذبت الطائرة إلى أرضك قبل الموعد.. وجدتك تُرسلين آلافًا يحملونه إلى «أمنا حواء».. وجدتك تضمينه ببياض الحمام، ودموع الأحباب.. وجدتك تخفينه بين حبات الرمل.. ومن بين كل ما وجدت.. وجدت على أرضك أرواحنا وقد مزقها الفراق.. فنبت من قلبي سؤال.. هل يا جدة سنجد فيكِ العزاء؟