ليس الوازع الديني ولا الوازع الاخلاقي بل الوازع الدستوري والرادع القانوني هو الذي يحول بين التغول الشخصي والفردي والجشع والطمع والانانية وبين الفساد في الشأن العام , فلايمكن استتباب الامن الاجتماعي وكبح جماح الفساد إلا بالقطع مع الغيبيات في المجال المدني, وعدم التعويل عليها في إدارة الشأن الجمعي , فالإحالة على غائب إنما ذاك فتح لابواب التبرير والتزوير والتدليس باسم ومظنة ذلك الغائب. فالضمير الفردي والتدين والصلاح والاصالة والنبالة ليست كوابح ضد الاستغلال الوظيفي , وليست حائلة دون الفساد المالي والإداري , فالجوانب الشخصية مهما كانت عالية لاتمنع من استثمار السلطة في المنحى الخاص , فلايجب الركون إلى اخلاقيات الإنسان وجعلها معياراً للحكم على نزاهة المسؤول , وحده التطبيق القانوني الصارم ووجود صحافة حرة بالكامل , قد تمنع من التسيب المالي والإداري في الشأن العام . إن النظر إلى المؤهلات الدينية والاخلاقية والوطنية بحسبها وزاعا ورادعا ضد التلاعب بالسياسات والبرامج الداخلية والخارجية , هو نظر واهم دون تأكيد ذلك بوجود كاشف قانوي قوي ومحايد يردع نوازع النفس البشرية المؤهلة للظلم والفساد إذا خلا لها الجو دون رقابة شعبية وإعلامية محصنة ضد الالتفاف حولها أو توجيهها للتعمية والتضليل , لقد جربت الشعوب الحديثة أن غياب برلمان تمثيلي حقيقي منتخب و رقابي على السلطات التنفيذية , يعني احتكار المصالح العامة للوطن لفئة خاصة دون بقية الناس , وهذا الاحتكار هو الكفر البواح والظلم الذي حذر منه الإسلام والذي يستتبعه الفساد في الارض بما كسبت ايدي المتنفذين , إن التعويل على مظنة الصلاح الشخصي والاخلاقي والديني للمسؤول , هو تعويل على هامش بسيط من النزاهة الفردية , و قد ثبُت أنها لاتحمي القرارات العامة من الانحياز والميل مع الاهواء الفردية , فلا إمامة المسجد والجامع ولا التقوى الإيمانية ولاعمادة كلية دينية ولاحفظ سور من القرآن ولاصلاة الليل واطراف النهار , فكل هذه ليست مسوغات للثقة المطلقة العمياء بالمسؤول الذي قد يتصف بها . لقد جربت امم حديثة ومتقدمة أن الرقابة الشعبية من خلال مجالس وهيئات وجمعيات المجتمع المدني المنتخبة وغير الرسمية , هي الملاذ لكشف الهدر المالي والإداري للجهات الرسمية , والقيام بالدور الرقابي الفاعل والايجابي على الصرف والإيراد الحكومي , ولم تعتبر هذه الامم مايحوزه المسؤول من قيم خاصة واخلاقيات مناطاً للتورع عن المساس بالمال العام , فالقيم والاخلاقيات والإيمانيات أيّا كان مصدرها سماوي أو ارضي , ليست بمفازة عن التلاعب والفساد تحت مظلتها وبإسمها أو عناوينها وشعاراتها البراقة . ليس غير الوعي بالحقوق , وقانون مصدره دستور لايمكن تفسيره بحسب هوى المسؤول وظروفه هي الحماية ضد انحراف المسؤوليات للمكاسب الذاتية , وليست الموعظة الحسنة أو حتى الخشنة سراً أو جهراً بمستودع للاطمئنان على العدالة الاجتماعية , لابد من الشفافية المؤطرة بالقانون الذي لايحابي ولايجامل احداً .