بنفس القدر الذي تعطي فيه النقوش - وبما تتمتع به من مقومات تاريخية - بنفس القدر الذي تعطي فيه قرائن وبراهين ودلائل ومؤشرات واضحة وصريحة على وجود حضارة ما، قمينة أن تجد عند المختصين في علم الآثار والمؤرخين وأكاديميي الجامعات الاهتمام والبحث وصولًا إلى فك أحجية تلك الحضارة التي استوطنت المكان الذي توجد به هذه النقوش أو الشواهد الأثري. جبل السكارى: ومن بين الأماكن التي تنتظر جهود الباحثين، جبل السكارى بنقوشه العديدة، والذي يقبع بمدينة الطائف في حي السلامة على امتداد شارع الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلى مقربة من بيت الكعكي ومشارف بيت الكاتب الذي بني على أنقاض بعض ما هدم من ذلك الجبل والذي ذكر فيما أورده رئيس نادي الطائف الأدبي المؤرخ حماد السالمي عن موقعه في الجزء الثاني من معجمه ذو الثلاثة أجزاء الموسوم ب”المعجم الجغرافي لمحافظة الطائف”، حيث أورد في –الصفحة 644 حول موقع الجبل ما نصه: “السُّكارى من سكران، جمع من بهم سكر، جبل مرتفع مشهور يقع بطرف حي السلامة من شماليها وغربها، بينها وبين حي قروى” هذا الجبل يزخر بوجود أكثر من موقع به نقش أثري، بعضها عبارة عن عبارات دينية، تشير بعض الاجتهادت إلى نسبتها إلى العصر العباسي أو ما قبله من عصري صدر الإسلام والأموي، ومن تلك العبارات التي ربما إن لم نستطع قراءتها إلا أنها الأقرب إلى ما سنورد من كلمات ومنها: “صلوات الله على..، لا إله إلا الله”، إضافة إلى ما لم نستطع قراءته من كلمات في أكثر من موقع. نقوش أموية: ومن بين من اهتموا بهذا النقوش الدكتور محمد الفعر الأستاذ بقسم التاريخ بجامعة أم القرى تخصص نقوش وآثار إسلامية الذي يقول: اهتمامي انصبّ على قراءة الكتابات العربية القديمة وموطنها مكة والمدينة؛ حتى إنني اكتشفت أن الخط الكوفي كنقش لم يكن نسبة لأهل الكوفة أنفسهم؛ وإنما سوقّه المهاجرون والأنصار إلى غيرهم بعد أن انتقلوا إلى كوفة العراق، ولم يكن للكوفة أي أثر في الخط الكوفي إلا التحسين والتجويد، ووجدت نقشًا في سد بالطائف لمعاوية بني أبي سفيان رضي الله عنه سنة 58ه، والذي لا شك فيه أن الطائف تعدّ مخلافًا من مخاليف مكة جاهلية وإسلام، ولا يُعيّن أحد أميرًا على مكة إلا بعد أن يجرب، وتلاحظ مدى قدرته على تحملّ المسؤولية في الطائف، وقريش كان لها أملاك كثيرة في الطائف، وكانت تذهب في الصيف إلى الطائف، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه لديه أملاكًا في الوهط والوهيط – على طريق الشفا- وأنا أخذت ذلك النقش وهو أقدم نقش أثري على الإطلاق في الحجاز بعد النقش في مصر، والذي يعود إلى عهد عبدالله بن أبي سعد بن أبي سرح بتاريخ 31 ه، وقد وجدت بردية – من بردى وهو الورق القديم- يعود تاريخها إلى سنة 22 ه وتعود إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو عبارة عن استلام أغنام الزكاة. أقوال متضاربة حول سوق عكاظ: أما الدكتور عائض الزهراني وكيل كلية خدمة المجتمع والتعليم المستمر وعضو التدريس بقسم التاريخ بجامعة الطائف فيقول عن النقوش الموجودة في منطقة الطائف: “البحوث كشفت نقوشًا ثمودية قديمة في الكثير من المناطق، ومنها الطائف؛ ولكن الطائف تحديدًا تحتضن الكثير من الشواهد التي تدلل على عمقه وأنه ضارب في خاصرة التاريخ، وعندما ابتدأت فكرة إنشاء سوق عكاظ وأتت لجان وقمنا بعميلة إحياء السوق مرة أخرى عثرنا وعلى مقربة من سوق عكاظ الكثير من الشواهد الثمودية والتي تدلل على أنها كانت في ذلك المكان حضارة ثمودية؛ حتى وإن كان هناك ما يثار بين وقت وآخر من تضارب الآراء حول التحديد الدقيق لموقع السوق إلا أن ما أثبت يشير إلى أن سوق عكاظ هو في موقعه الحالي الآن وفقًا للرؤية التي أقرتها اللجنة الأولى، والتي كان فيها الكثير من أساطين الأدب وعمالقة التاريخ أمثال ابن خميس وحمد الجاسر، وفق دلائل وبراهين كان منها بعض القصائد المشهورة والنقوش التي تشير إلى المكان تحديدًا، وفق ذكر أسماء مواقع جغرافية قريبة من المكان الحالي، حتى وإن كان سبق وأن تبنى الدكتور فهد المعطاني الرؤية الأخرى والتي تشير إلى أن موقع السوق كان على طريق السيل، وكان ذلك الجدل والذي لازال يثار أحيانًا ومنذ أكثر من 15 سنة إلا أنه الآن انتهى بعد أن تشكلت لجنة تختص بتحديد موقع السوق وأقرّ موقعه وحسم الأمر، غير أن الشاهد في ذلك هو ما قامت به النقوش وبعض الشواهد الأخرى من تحديد موقع السوق حتى إنه في لحظة ولادة فكرة إحياء السوق في بداياته كان لدينا الكثير من عمالقة الآثار ومنهم عضو مجلس الشورى وأستاذ الآثار الدكتور خليل المعيقل والذي اشتغل في تلك الفترة على السوق، وفي بحثه ذلك اكتشف الكثير من الشواهد الأثرية والتراثية القديمة التي يعود بعضها إلى ما قبل الإسلام كما لا يمكن إغفال ما قام به الدكتور ناصر الحارثي يرحمه الله بعد أن وثّق الكثير من النقوش التي تحتضنها المنطقة تحديدًا حتى وإن كانت جهوده -وبرغم أنه يشكر عليها- لا تزال متواضعة فالعمل والتنقيب عن الآثار والشواهد والنقوش يحتاج إلى فريق بحثي ضخم جدًّا ومتكامل مثل ذلك الفريق البحثي الذي قام به فريق الآثار بقيادة البروفيسور الدكتور عبدالرحمن الأنصاري عندما قام بالتنقيب في الفاو، إلى ما قام به الدكتور أحمد الزيلعي من بحث في المناطق الساحلية وتهامة، حتى وإن كان مجلس الشورى قد أخذه قليلًا عن البحث إلا أن ما قدّمه للنقوش والآثار يعد منجزًا بحد ذاته، غير ما تقوم به جامعة الملك سعود وهي الجامعة الوحيدة التي تقوم بالاهتمام بالآثار على مستوى المملكة. مضيفًا بقوله: إن منطقة الطائف ظلمت كثيرًا فهي تحتاج إلى الكثير من البحث والتنقيب عن شواهدها ونقوشها القديمة والعتيقة والتي ستضيف بلا شك للحضارة الإنسانية قبل كل شيء ثم لمدينة الطائف وتاريخها على وجه الخصوص حتى إن غياب البحث والتنقيب في مجال الآثار في جامعة الطائف له دوافعه وأسبابه ومنها بل وأحد أسبابها الرئيسة هو حداثة الجامعة بعد انفصالها عن جامعة أم القرى، وإلى الآن لا يوجد قسم تاريخ ولا يوجد أيضًا مواد تدرس التاريخ بالجامعة ولكنها ابتدأت في التوجه إلى تقديم دراسة بحيث يمكن فتح قسم التاريخ بشكل أوسع وأشمل في مجال الدراسات العليا انطلاقًا من رؤية الجامعة بأنه لو تم فتح قسم تاريخ فلن يقبل على الطلاب نظرًا لنظرة الطالب الملتحق بالجامعة بأنه لا يوجد بعد ذلك توظيف في حالة تخرجه من الجامعة. ومن جانبه ينفي المؤرخ السيد علوي القصّير ما أشار إليه الدكتور عائض الزهراني من أن النقوش كانت وراء تحديد سوق عكاظ، مشيرًا إلى أن السبب وراء تحديد موقع السوق كان في المواقع التي ذكرت في قصائد العرب القديمة والتي لا زالت مسميات بعض المواقع والجبال تحمل نفس المسمى إلى الآن.. ويضيف قائلًا: الدكتور ناصر الحارثي يرحمه الله هو الوحيد الذي تناول النقوش، وكل ما كتب بعد ذلك جاء من خلال ما كتبه الحارثي؛ حيث عدّت مراجعه الأولى، وأما ما جاء بعده فهو مشتق مما كتب، حتى ولو كانت قراءته مختصرة؛ ولكنه استطاع أن يوثق قدرًا كبيرًا من المواقع والتي تتواجد بها النقوش في كتابه. أما عن الطائف فيوجد بها العديد من النقوش الأثرية التي تتمتع بها منها ما هو باقٍ ومنها ما أزيل، ومن المواقع التي تحتضن النقوش جبل السكارى وأم السباع والردف إلى بعض المواقع المتناثرة هنا وهناك ومن هذه المواقع الهدا ووادي محرم. غزال” تثليث ومن بين الأماكن الأثرية التي تزخر بها الطائف “وادي تثليث” الذي يقع في منطقة تثليث إلى الشرق من مدينة خميس مشيط ويبعد عنها مسافة 200 كيلومتر. هذا الوادي الأثري يعد من المواقع الأثرية المهمة لما يحويه من عشرات المواقع الأثرية المختلفة المتناثرة فيه منها ما يعود للعصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث ومواقع من حضارة جنوب الجزيرة العربية كما تنتشر فيها مواقع الرسوم والنقوش الصخرية والكتابات ومناجم التعدين. وقد أشار محمد السبيعي مدير المتاحف والآثار بمحافظة جدة ومدير متحف قصر خزام إلى أهمية هذه المنطقة الأثرية، مستشهدًا بما حصل عليه من قطعة أثرية نادرة، حيث يقول: خلال إحدى جولاتي في المنطقة الجنوبية وتحديدًا في منطقة “تثليث” حصلت على قطعة أثرية نادرة تظهر على شكل نقش أثري على صخرة لما يشبه الغزال، وهو ما استرعى اهتمامي بضرورة البحث التاريخي لهذه المنطقة الأثرية من قبل أكاديميي الجامعات وعموم الباحثين. وتعقيبًا على ذلك أكد الدكتور غيثان بن جريس أستاذ علم التاريخ بجامعة الملك خالد على تعاقب الحضارات والآثار في المنطقة الجنوبية والتي شملت العديد من الحضارات ومنها الثمودية واللحيانية، مشيرًا إلى أنه لم يطلع على النقش المعني حتى يتحدث عنه، إلا أنه أفاد بأنه تناول منطقة تثليث كموقع أثري في إحدى مؤلفاته.