اطلعت على ما كتبه الوالد صالح بن أحمد بن ناحي الغامدي في ملحق الأربعاء عدد (17465)، وتاريخ (13 ربيع الأول 1432) حول الأمير سعود السديري وسماته الإدارية والأدبية. والواقع أن الأستاذ صالح بن ناحي يشير دائمًا إلى فضل الأمير سعود السديري في تكوينه الإداري وهذا ينم عن إحساس عالٍ يحمل الكثير من معاني الصدق والوفاء ورد الجميل. وإذا كان الأستاذ صالح يتحدث عن سمات الأمير سعود السديري من باب العرفان بالجميل فإن هذا العرفان يتمثل أيضًا في قدرته على الاستفادة الكبيرة مما تعلمه ليشكل هو أيضًا مدرسة إدارية. وإن كانت شهادتي فيه مجروحة بحكم العلاقة إلا أن هناك من يستطيع الرد ممن عرف وعاصر السيرة المهنية للأستاذ صالح بن ناحي إما لتأكيد أو تفنيد ما أقول في رأيي هذا. من أهم ما يشير إليه مقال الأستاذ صالح بن ناحي مفهوم القابلية. والمقصود قابلية العطاء والتعلم. فالأستاذ صالح بدأ حياته معلمًا ويشهد طلابه بقدرته وغزارة علمه وحزمه، وهو يشير دائمًا إلى أساتذة مرو في حياته سواء في قرية الظفير أو في مدرسة الفلاح بجدة، حيث تتلمذ فترة من الزمن حينما كان والده يعمل مع في خدمة الحجيج في جدة مع الشيخ أبو زيد. قابلية الأستاذ صالح على التعلم ومن ثم العطاء يمكن التدليل عليها بشواهد عديدة يتذكرها كثير من طلابه إلى اليوم. فهل يتخيل أحد أن يقوم استاذ قبل أكثر من خمسين عامًا بتدريس الخط تصاعديًا لمنع تقليد الخط والمحافظة على معايير الكتابة الحرفية؟ من يقوم بهذا اليوم؟ هل يتخيل أحد أن يقوم استاذ بنقد الشعر والنثر مع طلابه في المرحلة الابتدائية وأن يطلب منهم مراسلة مجلة العربي الكويتية ومجلة هنا لندن...؟ نحن اليوم نعجز عن أن نفعل ذلك مع طلاب الجامعات، فكيف استطاع هذا الرجل فعل ذلك مع أولئك الطلاب؟ إنها القابلية من الطرفين والتي نفتقدها اليوم. فذاك زمان كان التعليم الابتدائي يوازي الجامعي اليوم، ولا أبالغ. ما نفتقده اليوم هو الشعور بالواجب من الأستاذ والشعور بنسبية المعرفة من المتعلم. وحيث إن سلوك الشخص لا يمكن تجزئته في مثل هذه الأمور فقد تكرر الحدث عند انتقال الأستاذ صالح بن ناحي إلى الإمارة تحت إدارة الأمير سعود السديري. لقد قابل معلما يشابهه في الرغبة الصادقة في العطاء فقرر أن يكون متعلمًا لا يترفع على المعرفة. لم يكابر كما يفعل كثيرون اليوم ممن يعتقدون انهم وصلوا إلى مرحلة المعرفة التي لا تتطلب أي إضافة. لقد ترك لنفسه أن تنهل من الحكمة وإدارة العمل وكيفية خدمة الناس دون إحساس بالتفضل والمن مع الحزم ومحاسبة النفس... فاكتسب تجارب جعلته بدوره حكيما. لقد تشكلت وصقلت شخصيته الإدارية في الإمارة لأنها كانت قابلة لهذا التشكل بما تحمله من خصائص قيادة فطرية، ولأنها قابلت شخصية قيادية معطاءة. ومن عاصر الأستاذ صالح بن ناحي مديرًا عاما للجوازات والجنسية ثم بعد ذلك مديرًا عامًا للأحوال المدنية بمنطقة الباحة (بعد الفصل بين الجهازين) يعلم حقيقة ماذا تعني مفردات العطاء والإنجاز والحزم والمحاسبة في العمل. ليس هذا مكان سرد حكايات وقصص كانت تحدث يوميا وكلها تدل على أنك أمام قيادي من طراز رفيع تخرج من مدرسة رفيعة على المستوى المهني والإنساني. فقوانين العمل يطبقها على نفسه أولا فأعلق باب الاحتجاج من موظفي الإدارة الذين قدروا واحترموا صفاته وقدراته ومعرفته وحكمته ورغبته في العطاء المنجز يوميا. فحزم دون عطاء وإنجاز مضيعة وقت وصراعات. لذلك كنت تجده يوميًّا بين بين مكتبه ومكاتب موظفيه والاستقبال. يصعب عدم مقابلته كل يوم من أي مراجع، وفي الوقت الذي كان يطلب من موظفيه العطاء الكبير كان يتحمل معهم وعنهم بمسؤولية كل اجتهاداتهم العملية. في الوقت الذي كان يطلب منهم الإنجاز كان يتيح لهم أن يتعلموا منه حتى غدا كثير منهم مسؤولًا آخر بدوره. هذا الحزم والمطالبة بالعطاء والإنجاز والمتابعة اليومية يتحول إلى مزاح جميل وحكايات عن أحداث اليوم وتخطيط للخروج في نزهات... بمجرد انتهاء الدوام الرسمي. والفلسفة التي تقوم خلف ذلك هي: للإدارة وقتها وللزمالة والصداقة وقتها. إنها المهنية في قمة صورها. تلك السمة التي أصبحت غريبة في زماننا اليوم حيث يخلط فيه الناس بين كل شيء. ولا يزال الأستاذ صالح بن ناحي يمثل لمن تتلمذوا على يديه ومن عرفه من أهل منطقته وغيرها قمة أخلاقية كبيرة ومرجعا في قضايا عديدة لعلمهم بصدقه في النصيحة وحكمته في الرأي. هي مدرسة أسسها الأمير سعود السديري نهل منها كثيرون وتابعها البعض منهم فشكلوا بدورهم مدرسة تعلم منها بعد ذلك من أراد ورغب عنها من أراد. ومن رغب عنها ليس لعدم قناعة بها ولكن لعدم قدرة على متابعتها. من رغب عنها كان فاقدًا للقابلية، غير قادر على الرضوخ للمعرفة والقدرة على العطاء. هي مدرسة تتعب فيها الأجساد ولكن بكل تأكيد ترتاح فيها الضمائر الحية. إنها نماذج من تلك الشخصيات التي إذا تذكرناها قلنا “جزاهم الله عنا كل الخير”. (*) رئيس قسم اللغات الأوروبية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة