سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عام 1807م دمنجو باديا أو (علي بك العباسي) أول زائر إسباني لجدة

في مقدمة كتابه الموسوم (رحالة اسباني في الجزيرة العربية) من إصدارات دارة الملك عبدالعزيز يقول الدكتور صالح بن محمد السنيدي: تظل الجزيرة العربية محل اهتمام الكثيرين ومحط أنظارهم منذ قديم الزمن، ابتداء باليونانيين والرومان، ومرورا بالبرتغاليين والهولنديين والألمان، وانتهاء بالإنجليز والفرنسيين وأخيرًا الأمريكان، هذا على صعيد الاهتمام الغربي الذي تمليه مصالح اقتصادية، أما الآخرون من آسيويين وأفارقة، مسلمين وغير مسلمين، فقد كان شغفهم بالوصول إلى الجزيرة العربية لا يقل عنه لدى الآخرين، لكنه يبقى اهتماما شخصيًا ومدفوعًا بدوافع دينية بحتة في الأعم الأغلب، وليس وراءه أهداف مريبة أو أطماع بعيدة المدى (1).
ويلفت الدكتور السنيدي النظر إلى غياب اسبانيا عن هذه الحلبة وعدم دخول ميدانها، «مع أن أساطيلها كانت من اوائل من جاس الديار بحثًا عن مغانم ثمينة ومستعمرات جديدة، وعلى الرغم من قربها المكاني وارتباطها بالمنطقة تاريخيًا بشكل أو بآخر» (2).
ويبين السنيدي أنه مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن الذي يليه، عادت اسبانيا تُلملم دفاتر ذكرياتها العتيقة متأملة في انتصاراتها ومغامراتها الجريئة التي فتحت أعين قارة أوربا ومفكريها على قارات وأرض بِكْر، لم تكن معروفة من قبل على الأقل لدى الأوروبيين.
ويقول السنيدي: إنه في ظل هذه الظروف «جاء مُغامر يحدوهُ طُموح الشباب وعنفوان الماضي السعيد لبلاده، ليحاول القيام بدورٍ ما في ظل تشابك المصالح وتداخل الصلاحيات بين حيتان تلك الحقبة، طامعًا في الوقت نفسه أن يسهم في خدمة بلاده ويصنع لها موطئ قدم فيما وراء الحدود، يسليها ويعوضها عمّا فقدته، أو هي في طريقها للنزوح عنه مُجبرةً، ونقصد بها أمريكا اللاتينية».
ويستطرد السنيدي قائلًا: «كانت المنطقة المقصودة هي المغرب التي تنظر إليها حكومة إسبانيا على أنّها الامتداد الأسهل والأقرب لها، وكان صاحب المشروع هو المغامر الجريء دمنجو باديا» (3).
وفي إصدار آخر لدارة الملك عبدالعزيز يقول الباحث أسعد عيد الفارس في أحد البحوث المقدمة خلال ندوة الرحلات إلى شبه الجزيرة العربية، الذي عقدتها دارة الملك عبدالعزيز في الرياض في أكتوبر عام 2000م أن دمنجو باديا المعروف باسم الشريف علي بك العباسي يقول: «بعد ان قضيت عدة سنوات في بلاد المسيحيين أدرس علوم الطبيعة والفنون التي لا يستغني عنها الانسان، عزمت اخيرا على زيارة بلاد المسلمين، ومن خلال أداء فريضة الحج سوف يتسنى لي دراسة سلوك وعادات وطبيعة البلاد التي سوف امر بها، خدمة للوطن الذي اخترته مثواي الأخير»... يقول الفارس: هكذا قال الشريف علي بك العباسيي قبل الشروع في رحلته الى الشرق (4).
ويتساءل الفارس: فمن هو علي بك العباسي؟ ثم يقول لنا: ان أثر هذا الرحال لا تشير الى هويته، فتركنا في لغز إمام شخصيته، لكن من الراجح انه اسباني من مواليد برشلونة حوالى عام (1766م)، واسمه الاصلي دمنجو باديا لبليخ جاء يحيط به الخدم والاتباع مدعيا انه من سلالة العباسيين، وانه جاء إلى مكة لتأدية فريضة الحج، فورعه الظاهر واتقانه للغة العربية والفقه الاسلامي جعله فوق الشبهات امام كل من جالسه من المسلمين، فبعد مشاورات أجراها مع شخصيات مهمة في باريس ولندن وصل طنجه عام (1803م)، فأمضى فيها سنتين قضاهما صديقًا للسلطان الذي امده بكل ما يحتاجه، وفي طريقه الى الحج وصل الى الاسكندرية عام (1806م)، فقابل هناك «شاتوبريان» الفرنسي.
يقول الفارس: كانت هذه اول اشارة توحي بانه كان يعمل لصالح الفرنسيين، الذين كانت تهمهم معرفة المسلمين في الشرق من الحركة الاصلاحية التي قامت في وسط الجزيرة العربية (5).
ويستطرد الفارس قائلًا: وفي مصر التقى باديا محمد علي باشا قبل أن يتوجه الى ميناء السويس في ديسمبر عام (1806م) ضمن قافلة تحملها عشرة من الابل ويحرسها ثلاثة جنود، بعد ان ترك في القاهرة كل ما يملكه.
وبعد رحلة عاصفة في البحر الاحمر وصل الى مكة في 23 يناير عام (1807م) فحل في منزل مجاور لحاكم مكة، كيف لا، وهو الذي يدّعى أنه من العباسيين. بل ان الحاكم كما يدّعي كان يصاحبه في اثناء التجوال في المدينة. فكان اول رحالة غربي يصف مكة وصفًا علميًا دقيقًا، ويحدد موقعها على الخريطة، ويصف تجارتها، ويقدّر عدد سكانها.
ويقول الفارس: إن هذا الرحالة وبعد أن أدى مناسك الحج وشارك في غسيل الكعبة، غادر مكة المكرمة في الثاني من مارس عام (1807م) في طريقه الى جدة، ومنها الى ينبع يريد المدينة المنورة، لكنه واجه ظروف أجبرته على العودة من ينبع الى مصر، ومن هناك قرر العودة الى اوربا فأنهى رحلته في رومانيا عام (1807م) (6).
رحلة علي بك العباسي أو دمنجو باديا:
عن هذه الرحلة يقول الدكتور صالح بن محمد السنيدي في ترجمته لكتاب (رحاله اسباني في الجزيرة العربية رحلة دومنجو باديا - علي بك العباسي الى مكة المكرمة سنة (1221ه - 1807م): إن ما توافر لدينا من معلومات لا يتناسب وحجم هذه الشخصية وما قامت به من مغامرات وأدته من أدوار، لكنها مع ذلك تلقى أضواء كافية حول حياة هذا الرحالة والتقلبات السياسية التي عاشها وشارك في أحداثها.
ويقول السنيدي: لم يلقَ باديا الاهتمام الذي يستحقه من قبل مواطنيه الاسبان بشكل عام، لكنه وجدة اخيرا من قبل الباحثين الكتلان الذين خصوه بدراسات وبحوث، آخرها مجموعة من المقالات والبحوث تحت عنوان: (علي باي Ali Bei حاج كتلاني في ديار الاسلام) “باللغة الكتلانية” نشر في برشلونة سنة (1966م) (7).
ترجمة دمنجو باديا لبليخ: Domingo Badia Leblich
يقول أغسطس رالي: يُعرف باديا على نحو أفضل بلقبه المستعار (علي بك العباسي). ولد في بيسكاي (Biscay) عام (1766م). ويبين رالي أن لغة باديا الاصلية سهلت عليه تعلم اللغة العربية ونطقها الصحيح.
ويقول رالي: تلقى باديا تعليما عاما ثم اكمل معرفته ودرس الطب والفلك وعلم المعادن. وفي عام (1802م) زار باريس ولندن وعاد الى اسبانيا في ثياب اسلامية بعد سنتين (8).
كما يبين الدكتور صالح بن محمد السنيدي في ترجمته لكتاب (رحالة اسباني في جزيرة العرب - رحلة دمنجو باديا الى مكة المكرمة) أن الباحثين الذين درسوا هذا الرحالة الاسباني قالوا: إنه ينتمي الى أب كتلاني كان يعمل سكرتيرًا لحاكم برشلونة وأم بلجيكية اسمها: كاتلينا لبيلخ Catalina Leblich (9).
كما يقول السنيدي: أن الرحالة نفسه واسمه دمنجو باديا واي لبليخ Dominego badia Y leblich، ولد في برشلونة في الأول من أبريل سنة (1767م) الموافق للثاني من ذي القعدة (1180ه). انتقل أبوه إلى غرناطة ثم إلى مدريد يرافقه ابنه الذي تبدو عليه علامات النجابة والنبوغ، فوجهه والده لدراسة الإدارة. وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره أصبح معاونًا إداريًا لوالده في بلده على ساحل غرناطة، ثم خلف والده في منصبه عندما انتقل إلى مدريد وعمره وقتها تسعة عشر عامًا. وبعد أن بلغ أربعة وعشرين سنة تزوج من فتاة غرناطية، وفي هذه الأثناء تحول إلى قرطبة ليعمل في مصلحة التبغ، وأثناء ذلك كان الطموح وحب المغامرة يدفعانه إلى البحث والدراسة وإجراء التجارب العلمية المتعددة التي كان أخرها تجربته الاستطلاعية حول الغاز وتأثيره في رفع المناطيد، وغير ذلك مما يدل على شخصيته المتميزة (10).
تقدم باديا لبليخ بمشروع رحلته في شهر أغسطس من سنة (1801م) / (1216ه) إلى الحكومة الاسبانية باسم (مشروع رحلة إلى شمال أفريقيا ذات أهداف سياسية وعلمية) وقد تمت الموافقة عليها مع ما يتطلبه ذلك من تمويل وتجهيز. وكان وراء المشروع والداعم الأول له رئيس الحكومة الاسبانية آنذاك مانويل جودي (Godoy) التي تحمس له واقنع الملك كارلوس الرابع Carlos IV بالموافقة عليه (11).
ويذكر السنيدي أن باديا: أخذ يستعد للرحلة ويحضّر لمستلزماتها من أجهزة ومعدات وتهيئة نفسية ولغوية ومعرفة تتناسب والبلاد المقصودة، فرحل إلى لندن وهناك التقى أعضاء الجمعية الأفريقية وبحث معهم إمكانية إجراء بعض الاكتشافات في القارة الأفريقية جنوب جبال الأطلسي.
كما يقول السنيدي إن باديا قام في هذه الأثناء بمبادرة شخصية فختن نفسه تأكيدًا لشخصيته الإسلامية التي سوف يتقمصها فيما بعد، ثم انتقل إلى باريس وأجرى بعض الاتصالات الخاصة، وأعد بعض الأجهزة العلمية التي تلزمه في رحلته هذه (12).
ويستطرد الدكتور صالح السنيدي قائلًا: وبعد سنتين من الاستعدادات والتجهيزات انطلق صوب المغرب، حيث وصلها في التاسع والعشرين من شهر يونيو سنة (1803م) الموافق للتاسع من ربيع الأول سنة (1218ه) معلنًا بداية الرحلة، ومتنكرًا بالزي العربي مدُعيًا أنه من أصل عربي، وينتمي إلى الأسرة العباسية ومتخذًا من على باى اسمًا له، موصيا أن الظروف دفعته إلى ترك بلاده الإسلامية والانتقال إلى أوروبا، وفي معاهدها درس العلم ونهل من معينه وتنقل ما بين دولها من ايطاليا وفرنسا إلى اسبانيا، مما جعله ينسى لغة آبائه وأجداده، لكنه مع ذلك ظل محافظًا على تعاليم دينه الاسلامي(13).
وعن البلدان التي زارها باديا خلال رحلته يقول السنيدي: في رحلته هذه جاب المغرب وولاية طرابلس وقبرص وبعض جزر اليونان ومصر والحجاز وفلسطين وسورية وتركيا، ثم عاد إلى بلاده عن طريق فرنسا سنة (1222ه)/ (1807م) التي كانت الأمور فيها مضطربة، حيث اقتحمها نابليون بونابارت وأسقط حكومتها، ونصب فيها ملكًا مواليًا له هو أخوه جوزيف بونابارت وضمها إلى حكمه المباشر فتردد رحالتنا هذا ما بين تفرغه لأبحاثه ومشروعاته العلمية أو الدخول في معترك السياسة ودهاليزها، فجذبته الأضواء وتقلب في مناصب متعددة تحت إدارة أخي نابليون جوزيف، وعندما انتهى الحكم الفرنسي في إسبانيا أثر باديا الرحيل معه والانخراط في خدمة الفرنسيين، وتحت حمايتهم بعد أن أحرق جميع أوراقه الوطنية (14).
وبعد زمن عاود الكرة للمغامرة وشد الرحال من باريس باتجاه الشرق وقيل إنه انتدب في مهمة جديدة تتعلق بالهند وبدأ يعد لها متخذًا من موسم الحج ووفد الحجيج الهندي وسيلة للبداية في مشروعه الجديد، لكنه لقى مصرعه وهو في طريقه إلى مكة المكرمة مع نهاية شهر أغسطس من سنة (1818م) الموافق نهاية شوال (1233ه) في ظروف غامضة، ولا يستبعد البعض أنه تم تسميمه من قبل أعدائه (15).
خط سير رحلة باديا إلى جدة ومحطاتها الرئيسية:
انطلق هذا الرحالة الإسباني من مدينة قادس في جنوب اسبانيا بعد أن وصلها من لندن عابرا مضيق جبل طارق من ميناء (طريفة–Tarifa) إلى (طنجة) التي وصلها في التاسع والعشرين من يونيو عام (1803م) الموافق التاسع من ربيع الأول عام (1218ه). ثم إلى فاس ومكناس ومنها إلى مراكش ثم وصل طرابلس ومنها سافر إلى الإسكندرية ولكن قبطانهم أخطأ الطريق فانتهى بهم الحال أن توقفوا على الساحل اليوناني. وغادروا مرة أخرى إلى الإسكندرية وعندما أوشكوا على الدخول إلى مينائها ضرب إعصار هائج أجبرهم على محاولة الرسو في ميناء (أبوقير) إلا أنهم ابتعدوا عن الشاطئ وأصبحوا مرة أخرى في أعلى البحر. وقرر قبطانهم الذهاب إلى قبرص بدلا من الإسكندرية. ووصلوا إلى ليماسول في السابع من شهر مارس سنة (1806م) الموافق للسادس عشر من ذي الحجة عام (1220ه). استأنف باديا رحلته للحج عن طريق الإسكندرية مرة أخرى فأبحر في باخرة يونانية صغيرة خُصص له فيها غرفة مستقلة. ووصل باديا إلى الإسكندرية في الثاني عشر من مايو سنة (1806م) الموافق الثالث والعشرين من صفر (1221ه). بدأ باديا جولته في مصر وصفها بأربعة فصول من كتابه، الذي يقول فيه: «ليس من الصعب تأليف مكتبة متكاملة لوصف هذا البلد».
من الإسكندرية ذهب باديا إلى القاهرة ومكث بها شهر وخمسة أيام ذهب بعدها إلى السويس التي أبحر منها قاصدًا جدة يوم الجمعة السادس والعشرين من ديسمبر (1806م). وفي السابع من يناير (1807م) وصل باديا ورفاقه إلى (ينبع). ثم منها إلى ميناء (الجار) الذي وصله في التاسع من يناير (1807م).
وفي الثالث عشر من يناير عام (1807م) (16). أي في أوائل ذي القعدة من عام (1221ه) وصل رحالتنا إلى مدينة جدة التي سجل لنا بعدسة ذاكرته بعض مشاهداته فيها، وتحدث عن أهلها وعاداتهم وتقاليدهم وتجارتهم ومساكنهم وملابسهم وأطعمتهم ونقودهم، وغير ذلك زمن زيارته لها في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي الثالث عشر الهجري.
جدة بعدسة ذاكرة علي بك العباسي (باديا):
بعد أن وصل باديا إلى جدة في ذلك اليوم من فصل الشتاء وصف لنا بعض تفاصيل ما فعله وما شاهده في هذه المدينة وما سجلته عدسة ذاكرته عنها، ما ننقل بعض منه هنا بتصرف.
يقول علي بك العباسي (باديا): «أُلقيت مرساة مركبنا بحبالها في ميناء جدة بنجاح، وهو ما يعني نهاية تلك الرحلة البحرية».
وفي الحال بعثت مع أحد اتباعي رسالة الى ذلك التاجر المكلف بشؤونى سيدي محمد ناس، وبعد قليل من انتصاف النهار جاؤوا بطلبي في قارب لنقلي الى اليابسة، حيث وصلت في حدود الساعة الثالثة، وقد أحسنوا استقبالي في غرفة تحوي كل مظاهر الزينة المشرقية وقدموا لي الطعام الفاخر. وعند الغروب دخلت السفينة إلى الميناء، وفي اليوم التالي وبعد انزال خدمي وأمتعتي توجهت للإقامة في منزل اتخذته سكنًا لي ولاتباعي (17).
ثم يبدأ باديا في وصف جدة فيقول: مدينة جدة هي مدينة جميلة بشوارع منتظمة، وبيوت لطيفة ذات طابقين او ثلاثة طوابق، مبنية جميعها من الحجر، وإن كان بناؤها اقل متانة نوعًا ما، وفيها عدد كبير من النوافذ الواسعة والسطوح المنبسطة. وفيها خمسة مساجد ليست بذات شأن. ويحيط بالمدينة سور رائع ذي أبراج غير منتظمة، وعلى بعد عشر خطوات من الجانب الخارجي، هناك خندق غير ذي فائدة. إذ لا يرى فيه أي بناء يدعمه، وعوضا عن الجسر المتحرك أمام بوابة المدينة، فإن هذا الخندق لا يملؤه غير التراب، وعلى الرغم من البناء الحديث فلا يبدو انه سيعمر طويلًا لأن جدرانه مقطوعة عموديا من دون انحراف ولا نتؤ، ويبلغ عرضه تسعة أو عشرة اقدام بينما عمقه اثنا عشر قدمًا (18).
وعن أسواق جدة يقول باديا: الاسواق العامة في جدة تحتوي على كثير من البضائع، لكن الأسعار فيها مرتفعة جدا، فسعر الدجاجة الواحدة يبلغ دورو اسبانيًا وتُحمل البقول اليها من اماكن بعيدة، وليس بالقرب منها نهر ولا ينابيع كما أنها تخلو من الحدائق والمزارع والبساتين، والماء الذي يُشرب في جدة هو ماء الامطار وهو ماء عذب لأنه يُحفظ جيدا في الخزانات، ولكني لن أقول الشيء نفسه عن الخبز الذي لم يبد لي انه جيد النوعية (19).
ويستطرد باديا قائلا: وتنتشر في جدة دائما الروائح العطرة، ففي جميع الأماكن العامة هناك أناس يبيعون أقداحا من الماء للشرب، ويضعون دائما بالقرب منهم مواقد يحرقون فيها البخور والعطور الاخرى، ويحدث الشيء نفسه في المقاهي والحوانيت والبيوت وفي كل مكان (20).
وعن سكان جدة وأعدادهم يقول باديا: وتقطن جدة حوالى خمسة آلاف نسمة ويمكن اعتبار هذه المدينة مركزا لتبادل التجارة الداخلية للبحر الأحمر، فسفن مخا تحمل اليها القهوة وغيرها من البضائع من الهند ومن جميع بلدان الشرق، حيث تُنْقل في سفن اخرى الى السويس وينبع والقصير ومراكز اخرى في سواحل الجزيرة العربية وافريقية (21).
ويبين باديا أن جدة كانت مدينة تتم فيها المبادلات التجارية إذ يقول: يشتري تجار جدة من مخا، او بالأحرى فإن تجار مخا يبعثون ببضائعهم الى جدة، ويرسل تجار القاهرة عن طريق وسطاء السويس أموالهم إلى جدة للشراء. وتصل إلى جدة عن طريق السويس بعض المواد من أوربا وخصوصا الأقمشة، لكنها لا تكفي لسداد أثمان بضائع الهند وقهوة اليمن، وتُدْفع معظم الأثمان بالدورو الاسباني أو بالاسكودو الألماني السميك، وهذه العملة الاخيرة هي المرغوبة في جدة لأنها تعادل الكثير في اليمن ومخا.
ويستطرد باديا في حديثه عن تجارة جدة فيقول: ويلحظ البذخ الكبير في الملابس والسكن، ولكن هناك من ينتمون للطبقات الافقر في المجتمع (22).
كما يقول باديا إنه: توجد حامية تركية بها مائتي جندي عرب وأتراك. ويقول أيضا: أنه لم يشاهد أي اوروبيين في جدة ولكنه ذكر انه كان يوجد بعض الاقباط فيها.
وقال ايضا: إن التاجر الرئيس في البلد هو سيدي العربي الجيلاني وقال عنه: «هو رجل ذو نبوغ وصاحب علاقة قوية مع الانجليز، ومعهم يقوم بكل تجارته تقريبًا» (23).
وتحدث باديا عن وسائل النقل من الحيوانات في جدة فقال: “لا يوجد في جدة خيول إلا ما لدى اغنياء تجارها، كما لم أشاهد بغالًا، اما الحمير فممتازه انها كبيرة وحسنة الهيئة، وهناك عدد كبير من الجمال، وهي حيوانات النقل الوحيده في البلاد” (24).
أما عن وسائل النقل البحرية فيول باديا: “هناك ما يقرب من مائة مركب تقوم بالنقل الساحلي البحري ما بين جدة والسويس، كما أن هناك أخرى غيرها تعبر إلى مخا، وبما ان الموجود منها إما معطوبة أو يجري إصلاحها، فإن عددها باعتقادي سينخفض الى الثمانين. والواقع انه لا يمر عام دون أن يغرق عدد منها في شُعب البحر الأحمر، ولكن هناك صناعة مستمرة للسفن في جدة والسويس ومخا» (25).
وذكر باديا أن المدينة محاطة بسور وانه كانت توجد أعداد كبيرة من الأكواخ خارج السور يسكن بها بعض الناس (26).
وعن الطقس في جدة زمن زيارته لها يقول باديا: تقع جدة في سهل هو في الحقيقة صحراء، وطقسها متقلب باستمرار، فمن يوم لآخر كنت أرى مقياس الرطوبة ينتقل من أقصى درجات الجفاف إلى أقصى درجات الرطوبة. وتبلغ الرياح الشمالية التي تقطع صحراء جزيرة العرب درجة من الجفاف تجعل الجلد ناشفًا، والورق يفرقع وكأنه وضع في بوابة فرن، كما يأتي الهواء محملًا بالتراب، فإن تبدلت الرياح لتصبح جنوبية، بدت فجأة الأعراض المعاكسة، فالهواء وكل ما يلمسه مشبع برطوبة لزجة تجعل الغضاريف الحيوانية رخوة، وهو شديد الازعاج على الرغم من أن السكان يعتقدون أنه أكثر صحة من ريح الشمال الجافة. وأعلى درجة حرارة شعرت بها كانت (24ْ) في مقياس الحرارة (ربما لانه زار جدة وقت الشتاء) ولقد وجدت الجو أثناء هبوب رياح الجنوب محملًا نوعًا ما بالضباب.
وفي إحدى الليالي كان القمر في سمت الرأس، وفي ليلة أخرى كان ناحية الشمال، وبتأثير خط العرض فقد كنت على بعد درجتين تقريبًا جنوب المدار (27).
ويبين باديا أن ماء زمزم كان متوفرا في جدة وقت زيارته لها إذ يقول عن ذلك: “ومنذ لحظة وصولي كانت تُقدم لي كل يوم جرار صغيره من ماء بئر زمزم، وكنت اشرب وادفع أجرته (28).
هذه إطلالة على جدة بعدسة ذاكرة أول رحالة إسباني يزورها في التاريخ الحديث تبين كيف كانت هذه المدينة العريقة في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، كما صورها هذا الرحالة الإسباني المغامر الذي زارها مرتين وأمضى فيها خلال زيارته الأولى لها حوالي اسبوع قبل ان يذهب إلى مكة المكرمة في يوم الأربعاء 21 يناير (1807م) الموافق الثاني عشر من ذي القعدة عام (1221م). ثم عاد إليها مرة أخرى قادمًا من مكة المكرمة وقضى فيها في زيارته الثانية لها حوالي (19 يومًا) سافر بعدها إلى السويس في طريق عودته إلى وطنه.
---------------
المصادر:
1- السنيدي، صالح بن محمد: رحالة اسباني في الجزيرة العربية، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، (1429م)، ص/9
2- المصدر السابق، ص/10
3- المصدر السابق، ص/11
4- الرحلات الى شبه الجزيرة العربية: بحوث مقدمة في ندوة الرحلات الى شبه الجزيرة العربية، ج/5 دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، (رجب 1421ه اكتوبر 2000م)، ص/578
5- المصدر السابق، ص/579
6- المصدر السابق، ص/579
7- العباسي، علي بك: رحالة اسباني في الجزيرة العربية، مصدر سابق، ص/19
8- رالي، أغسطس: مسيحيون في مكة، ترجمة رمزي بدر، الوراق، (2007م)، ص/52-53.
9- العباسي، علي بك: رحالة اسباني في الجزيرة العربية، مصدر سابق، ص/19
10-المصدر السابق، ص/20
11- المصدر السابق، ص/20
12- المصدر السابق، ص/20 – 21
13- المصدر السابق، ص/21
14-المصدر السابق، ص/22
15- المصدر السابق، ص/23
16- السنيدي صالح بن محمد رحالة اسباني في جزيرة العرب، مصدر سابق ص/52 – 121
17- المصدر السابق، ص/122
18- المصدر السابق، ص/124
19- المصدر السابق، ص/124
20- المصدر السابق، ص/124 - 125
21- المصدر السابق، ص/125
22- المصدر السابق، ص/126
23- المصدر السابق، ص/126 - 127
24- المصدر السابق، ص/128
25- المصدر السابق، ص/129
26- المصدر السابق، ص/129
27- المصدر السابق، ص/130
28- المصدر السابق، ص/130


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.