كثير من شعوب العالم تجيد التعامل مع أزماتها الصغيرة والكبيرة وعلى مستوى الفرد والجماعة والمؤسسة والمجتمع ومن ثم يكتمل النجاح بالجهد الحكومي، والسبب ببساطة يكمن في رسوخ الوعي على كل هذه المستويات بينما نجد عندنا الكثيرين يجيدون اختلاق الأزمات وافتعالها ولا يجيدون إدارتها وعلاجها. هذا الرأي قد يبدو من حيث التوقيت وكأنني أشير إلى أزمة الأمطار والسيول في جدة، وهذا صحيح لكنه ليس كل شيء، فتلك الأزمة بحكم حجمها استنفرت جهودًا كبيرة وفي نفس الوقت تكشف مرة بعد أخرى غياب مفهوم إدارة الأزمات على مستويات المجتمع كافة بدرجة كبيرة رغم أن الأمطار الأخيرة كانت متوقعة، لكنها أكدت هذا الغياب في التعامل مع الأزمات على مستوى الفرد والأسرة والمؤسسات والمدرسة وهلم جرا بما فيها بعض الأجهزة الحكومية التي تصر على أن التعامل مع الأزمات يكون بخطط الطوارئ العاجلة وليس بعيد المدى القائم على نشر ثقافة الوعي بالأزمات. وهنا أود أن أدلل على ذلك بعديد من الأزمات التي هي من صنعنا ولا تعود لعوامل طبيعية والأمثلة كثيرة في حياتنا اليومية وهي لا تقل خطورة عن كارثة السيول، ودعوني أذكر بعضًا منها حتى لا يكون الكلام على عواهنه. إذا نظرنا للجوانب الاجتماعية: أليست الخلافات والعنف الأسري أزمة تعصف بالبيوت واستقرار آلاف الأسر ومئات الآلاف من الأبناء، وينخر في نفوسهم ويشوهها.. هذا مثال بسيط يكشف الثقافة السلبية التي تخلق أزمات لها نتائج خطيرة على المجتمع. نأتي إلى مثال آخر لمن يسببون أزمات.. أليس الإهمال يعشش في كثير من المنازل بوجود مواد سامة وكاوية وحارقة لاستخدامات التنظيف والتطهير تترك في متناول الأطفال ويسبب مآسي، وإذا قلنا عن عدم وجود صيدلية للإسعافات الأولية وغياب الخبرة عليها وإذا وجدت عادة ما تكون مخزنا لأدوية منتهية، وإذا تحدثنا عن عدم وجود طفايات حريق في 99% من المنازل وأيضًا السيارات كم منها يوجد بها طفايات حريق والموجود منها غالبًا ما تكون فارغة ومهملة. ننتقل إلى مستوى آخر من الإهمال المسبب لأزمات ومآسٍ وهي المنشآت، وبخاصة الصغيرة منها وهي بالملايين ومكدسة بالبضائع ولا توجد بها وسائل سلامة ولا العاملين فيها في دماغهم هذا الشيء. الحال أشمل في المدارس والتجمعات الكبيرة: إلى أي مدى توجد خطط طوارئ وتدريبات على تجارب فرضية وكيف يمكن إخراج الطلاب والطالبات وكيف يتصرفون وإلى أي مدى تتوفر سلالم وأبواب الطوارئ؟ كل هذه المظاهر للإهمال ومسببات أزمات يجعل الحديث عن ثقافة إدارة الأزمة ضربًا من العبث ونحن غارقون في مسبباتها، وهكذا عندما نضع مفهوم الأزمات وأسبابها وثقافتها يكشف لنا انفراط عقد اللا وعي والإهمال كحبات المسبحة. إدارة الأزمات لها أسس عامة يجب أن تترجم إلى خطة جاهزة للتطبيق في أي طارئ لا سمح الله ومن أهمها: السرعة والعمل الجماعي، اعتماد الأساليب العلمية، الهدوء وعدم الانفعال طيلة فترة معالجة الأزمة، الاهتمام بالعلاقات الإنسانية وتشجيع المبادرات والإبداعات وبث روح الحماس بين العاملين، الابتعاد عن البيروقراطية، الاهتمام أولًا بتطويق الأزمة وعدم السماح بتوسعها، تقييم دروس الأزمة لضمان عدم تكرارها، تقسيم العمل على مراحل أو فعاليات متسلسلة لمواجهة الأزمة، تحديد المستلزمات المادية وعدد الأجهزة والمعدات والآليات ووسائل الاتصالات وبالحد الكافي وحسب متطلبات الأزمة. أين نحن من كل ذلك في منشآتنا ومدارسنا وبيئتنا؟ بصراحة هذا واقعنا بكل أسف عن الإهمال المتغلغل حتى النخاع في الحياة العامة والخاصة، وكأننا لم نسمع عن حاجة اسمها إدارة الأزمات، وكيفية التعامل معها، ولا عن ثقافة السلامة والوقاية، وقد قال حبيبنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: “اعقلها وتوكل”، فلا عقلناها ولا توكلنا، وإنما التواكل هو من سمات مجتمعنا، وندفع ثمنه غاليًا على كل المستويات، وكل واحد يبني على غيره المسؤولية، ويعلو صوت اللا مبالاة بشعار: “ايش دخلي”، وأصبحت السلوكيات سلبية إلى درجة الفوضى خلال أي طارئ. أخيرًا.. ونحن نتحدث عن إدارة الأزمة وثقافة الطوارئ لا بد وأن نعود إلى الأمطار.. ماذا فعلت الأجهزة وماذا غاب عنها؟! هذه التساؤلات هي ما أتناوله الأربعاء القادم بإذن الله ودمتم بألف خير. [email protected]