هناك مثل يردده أهالي جدة منذ سنين طويلة يعكس مأساتهم كلما هطلت الأمطار بغزارة على هذه المدينة النائمة على شاطئ البحر الأحمر.. يقول المثل: (جدة تغرق في شبر «أي بضع سنتيمترات» من الماء).. ومنذ أن أقبل علينا محمد سعيد فارسي، كأمين للمدينة في السبعينيات الميلادية، والمسؤولين يحدثوننا عن المشروعات الطموحة لتصريف المياه، وتوفير خدمات المجاري للمساكن.. وخصصت الدولة عشرات بلايين الريالات خلال أكثر من أربعين سنة، لإنقاذ جدة من شبر الماء.. ولكننا نجد اليوم أن المياه لا يجري تصريفها، وأن المجاري لا زالت تحبو مشروعاتها وتخجل من الظهور.. والأسوأ من كل ذلك أن البلايين من الريالات تلحقها بلايين أخرى، ولا نشاهد أي ناتج لهذه الأموال سوى المزيد من الوعود التي تركتنا جميعًا نعيش في أحلام يقظة بأن البلايين ستظهر في شكل مشروعات لتصريف المياه وأخرى لربط مساكننا بالمجاري. عوضًا عن تحقيق أي من أحلامنا حلت علينا آفة جديدة تمثلت في أنفاق طرق نجح المقاولون الذين نفذوها في جعلها بركًا تتجمع فيها مياه الأمطار، وشوارع تنهار وتتشقق مع كل زخة مطر تصاب بها جدة، بالإضافة إلى أحياء ومساكن تتحول إلى بحيرات ووقوع مآسي حصدت أرواحًا كثيرة في مناطق تم الترخيص بالبناء فيها.. وخلال العام الماضي وهذا العام أغرقنا بعض المسؤولين بالتصريحات والوعود التي أصبح الناس لا يصدقونها بعد أن فشلت أجهزة هؤلاء المسؤولين في المحافظة على حياة الناس، ومنهم أمانة جدة، وتوفير الحماية الكافية للمواطنين والمقيمين على حد سواء.. واختلطت مياه الأمطار بمياه المجاري لتبعث روائح كريهة من المستنقعات والبرك التي تشكلت أمام المنازل وفي العديد من الأحياء، ولتوفير بيئة للجراثيم والحشرات لتسميم حياة الناس. من المسؤول..؟! وأين المسؤول..؟! ويجب معاقبة المسؤولين.. هذه شعارات تكررت بين العديد من كتاب الصحف.. لكن المشكلة ليست هنا، وليس هذا كل ما نطالب به، بل أن المطلب الرئيسي والذي يجب أن يُقدَّم للمسؤولين هو علاج المشكلة الأساسية، وهي العجز المستدام، خلال أكثر من ثلاثين سنة، عن إنشاء نظام متكامل لتصريف المياه، وفشل واضح في عدم تنفيذ خدمات المجاري.. وفيما إذا كانت هناك مصداقية للإشاعات التي تكررت عن العجز في الحصول على قطعة أرض هنا أو هناك لخدمة أي من المشروعين (تصريف الأمطار والمجاري) لأن هناك من يملك القطع المطلوبة ولا يمكن نزعها للصالح العام.. وإذا كان الأمر كذلك، ألا تملك الجهات المعنية القدرة على نزع الملكية أو المال للتعويض عن هذه القطع؟.. وهل يمكن حقًا لمشروعات تخدم كامل المدينة أن تتوقف بسبب قطع أرض صغيرة، ولا يتم ربط المجاري ولا تصريف المياه، بينما يجري تخصيص المبالغ الطائلة سنويًا لهذا الغرض، ولا نعلم ما هو مصير هذه المبالغ، أهي تبقى في خزائن وزارة المالية، أم أنها تتسرب إلى حسابات بنكية لأفراد ينفذون مشروعات لا علاقة لها بما خصصت لها هذه الأموال. ونعود إلى الحديث عن أمانة جدة والأنفاق التي شقتها في مختلف أنحاء المدينة، فهل المواصفات التي نفذت بموجبها هذه المشروعات غير مناسبة، أم أن المقاولين الذين نفذوا الأنفاق والمشرفين على تنفيذ هذه المشروعات تآمروا لمصلحة توفير الأموال لأنفسهم وعدم تنفيذ المشروعات بشكلها الصحيح.. وماذا عن الطرق التي تتشقق وتنهار هل الأسفلت والمواصفات التي تشق بها هذه الطرق هي خصوصية من خصوصيات مجتمعنا السعودي بحيث تتآكل الطرق بسرعة، أم أن المواصفات السليمة والمعمول بها في دول كثيرة من العالم المتقدم والمتأخر والتي لا تؤدي إلى تآكل أسفلت الطرق بهذه السرعة الفائقة، وخاصة عندما تأتي الأمطار القليلة، هي مواصفات غير صالحة لهذه الطرق الجداوية الخاصة. الحقيقة هناك صعوبة في فهم العجز القائم عن تنفيذ هذه المشروعات في بلدنا، كما هو الأمر في العديد من بلاد العالم.. لماذا نعيش مبشرين بخدمات المجاري لعشرات السنين، ولا نحصل عليها؟ ولماذا لا يمكن تصريف مياه الأمطار في الأنفاق الحديثة التي صرفت عليها ملايين طائلة؟ ولماذا لا يوجد نظام لتصريف الأمطار في مختلف الشوارع في الأحياء والطرق الرئيسية (طريقي المدينة وشارع الأندلس كمثالين)؟.. ولماذا يعلن عن معاقبة فرد أو آخر ولا يتمكن الباقون (ممن لم يعاقبوا) من إصلاح ما عوقب المعاقبون من أجله؟!. الأسئلة كثيرة.. والإجابات ليست صعبة.. الدولة تخصص البلايين لمصلحة المشروعات التنموية في البلاد، وهناك أولوية تسبق تنفيذ العديد من المشروعات وهي توفير الخدمات الأساسية للمواطن وتشمل تصريف المياه وخدمات المجاري.. فإذا كان هناك عجز في تنفيذ المشروعات الأساسية، فإن المشروعات الأخرى ستفشل إن عاجلًا أو آجلًا. صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزير، من أكثر قيادات هذه البلاد كفاءة وبعد نظر، وهو اليوم على رأس لجنة وزارية لإنفاذ توجيهات خادم الحرمين الشريفين وولى العهد لمعالجة التقصير الذي أدى إلى كارثة مكررة في مدينة جدة بسبب الأمطار.. والأمل أن تعالج اللجنة -برئاسة سموه- بصلاحياتها جانبًا مهمًا وحيويًا من أسباب الكارثة، وهو الإشراف على تنفيذ المشروعات التي جرى التقصير فيها والسعي لوضع القواعد اللازمة لتنفيذ مشروعات الطرق وتصريف الأمطار والسيول ومد خدمات المجاري إلى المساكن.. فبهذا يكتمل الحل، بالإضافة إلى معاقبة المقصرين والفاسدين بما يستحقونه. عدنان كامل صلاح ص.ب 2048 جدة 21451 [email protected]