في روايته الجديدة “أسد القفقاس” الصادرة عن دار الكتاب العربي ببيروت يخوض الكاتب المصري منير عتيبة مغامرة متعددة الأبعاد، فتاريخيًا يذهب بروايته إلى فترة تاريخية قليلة هي الأعمال الروائية المعاصرة التي تدور أحداثها فيها، وجغرافيًا ينتقل إلى منطقة تندر جدًا الأعمال الروائية التي تدور في أجوائها، غالبًا هي الرواية العربية الأولى التي تدور أحداثها في بلاد القوقاز. في بلاد الداغستان والشيشان في نهاية القرن الثامن عشر وثلاثة أرباع القرن التاسع عشر، كما أنه يستخدم تقنية رواية الأصوات، وهي تقنية لا تستخدم كثيرًا في الروايات التاريخية، أما على المستوى الأعمق؛ فيبدو أن الكاتب يحاول أن يقف في تلك المنطقة الجغرافية البعيدة وفي تلك الفترة التاريخية الأكثر بعدًا، لكي يستطيع رؤية واقعنا الآن بصورة أوضح وأكثر عمقًا، وهو ما تحسه أثناء قراءة فصول الرواية، حيث ابتعد الكاتب جدًا ليكون أكثر قربًا وأكثر قدرة على الفهم. تتناول الرواية حياة الإمام شامل بن ذكاو إمام المريدين في الشيشان وداغستان، المولود سنة 1799م، وتتلمذه على يد الشيخ سعيد الهركاني أكبر علماء عصره، ثم أخذه الطريقة الصوفية النقشبندية؛ التي كانت تحمل لواء العلم والجهاد في كل بلاد القوقاز، على يد الشيخ محمد أفندي اليراغي النقشبندي الذي أجازه، وجهاده ضد الروس طيلة 25 عامًا، ووقوعه أسيرًا في قبضة القيصر اسكندر الثاني، إلى وفاته سنة 1871 في المدينةالمنورة ودفنه بجوار قبة العباس رضي الله عنه عم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. لم يكن شامل مجرد زعيم عصابة جبلي كما يحاول أعداؤه أن يصوروه، كان حاكما يعمل في ظروف غير مؤاتية في سبيل وحدة القفقاس، وهو شخصية خلافية جدا، هو المجاهد الصوفي الإسلامي الكبير، وهو خارج على القانون وإرهابي. هو سادس الخلفاء الراشدين، وهو متسلط باسم الدين. حارب الروس لمدة ربع قرن، حقق انتصارات مبهرة بقوات قليلة، بنى دولة، ثم وقع في الأسر لعوامل كثيرة أهمها الخيانة وعدم قدرة الأتباع على مواصلة النضال. يبدو الواقع القبلي الممزق المتخلف الذي عاشه وحاربه شامل أشبه بعالمنا العربي والإسلامي اليومي، لذلك حرص عتيبة على تناول حياة شامل بما يلقي الضوء على ما نعيشه الآن. وذلك من خلال رواية أصوات يتحدث فيها من أحاطوا بشامل من الأهل والأصدقاء والمنشقين والأعداء، ليس فقط ليوضحوا جوانب حياته المختلفة، بل ليكون الكاتب محايدًا بقدر الإمكان؛ ظاهريًا على الأقل، وهو يشير إلى ما سننتهي إليه الآن، كما انتهى شامل من قبل، الهزيمة والأسر وتشتيت شمل شعبه بددا. ساعد استخدام تقنية رواية الأصوات الكاتب لدراسة شامل وعصره كحالة مشابهة لعصرنا الحالي، دون أن يدع للعاطفة الرخيصة فرصة للتدخل في مسار الحكي، حيث لم يتحدث شامل عن نفسه في الرواية التي اتخذت شكل الدائرة المغلقة، بل تحدث عنه من عرفوه من أصدقاء وأعداء، بداية من الفصل الأول (كريمة.. العالم في حجرة أبي) والتي تصف فيه ابنة شامل حياته في مدينة رسول الله بعد النفي، وحبه لقضاء أوقاته بمقابر البقيع، حتى الفصل الأخير (كريمة.. مجاور قبة العباس) والتي تغلق به كريمة دائرة الرواية بوصفها لحياة أبيها بالمدينة ووفاته، وعلى مدى فصول الرواية نستمع إلى رأي مريدي الإمام، وأصدقائه، وأعدائه من قومه ومن الروس، وحكاياتهم معه، حيث يبدو لنا شامل رومانتيكيًا كبيرًا مقارنة بمعاونه الكبير؛ ثم عدوه الكبير بعد ذلك، الحاج مراد الذي كان سياسيًا عملياً لا يحلم بأكثر مما يستطيع الحصول عليه من مكاسب قريبة (كتب عنه تولستوي واحدة من أجمل رواياته)، أما شامل فهو يحلم بالمستحيل، توحيد أمة ممزقة، وقيادتها لمحاربة دولة كبيرة جدا هي روسيا، وهنا تتجلى الفكرة الكبرى في حياة شامل، فكرة النصر النهائي الذي يحقق الأحلام (ومن قال إنني كنت أبحث عن النصر النهائي أو أنتظره؟!) هكذا يقول شامل مؤكدا أن الرومانتيكيين الكبار؛ الحالمين الكبار أو الثوار الكبار، هم من يعملون، ويهبون حياتهم من أجل ما يؤمنون به، حتى ولو كانت كل دلائل الواقع تشير إلى أن ما يسعون إليه لن يتحقق، لذا نجد الكاتب يحرص على تأطير العلاقة بين شامل والأمير عبدالقادر الجزائري، وبينه وبين محمد علي باشا، مشيرًا إلى موسى بن غسان آخر الشهداء المدافعين عن غرناطة، جميع هؤلاء تجمعهم فكرة واحدة هي ما عبر عنه الأمير عبدالقادر الجزائري في الرواية (تعلم مقدورك لكنك لا تستطيع تغييره. تذهب بنفسك إلى حتفك لأنك لا تستطيع أن تتخلى عن واجبك)