1- تمهيد: نشتكي كثيرًا من سيطرة الآخرين على الإعلام، وهذا صحيح، بَيْدَ أنه ليس كلَّ الحقيقة؛ لأن هذه السيطرة هي أحد أخطائنا الاستراتيجية العَصِيَّةِ على العلاج. أما الشِّقُ الآخرُ من الحقيقة فهو أن الميدان الذي نملكه واسع أيضًا، ولكنا أخفقنا في استثماره لأسباب كثيرة. فنحن -أحيانًا- نشعر بأنه لا منافسَ لنا، فنتحرك ببطء شديد، وأحيانًا نشعر بأن الدائرة تضيق علينا؛ فنهرب إلى معادلة شديدة الاستحالة، وهي: إن ما نملكه لا قيمة له، والشيء القيم لانستطيعه. وبين هذا وذاك يخلد المرء إلى التبعيّة والتقليد والمحاكاة، ويضم إلى ورد الصباح: ليس في الإمكان أبدع مما كان. لقد تحسن الأمر كثيرًا، فلقد كان الخطباء يرددون خطب ابن نباتة المصري حتى وقت قريب! والحق أن سندنا الأقوى هنا هو الدين. نعم. الدين الذي ساق هذه الملايين إلى ساحة الخطبة طوعًا واختيارًا. والدين الذي استنصتهم، وكاشفهم أن من مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له. والدين الذي هو اللغة المشتركة بيننا وبينهم، فباسمه نتحدث وباسمه يستمعون فإذا أحسنا التعامل مع قضاياه وحقائقه أمسكنا بالزمام، وإلا فسيكون الضعف من حيث كانت القوة. 2- المضمون: وهذا يقود إلى جوهر الموضوع. فحجر الزاوية هو حسن اختيار موضوع الحديث، وطول التفكير فيه، ليكون قادرًا على المواءمة بين مطالب الشرع، وحاجات الواقع، وتطلعات المستقبل. إن التوفيق في اختيار الموضوع بحد ذاته، نجاح حتى لو حدث نقص في تغطيته. والاتكاء على مُحْكمات الشرع ومُجْملاته أليق وأوفق، فالحديث عن الله وكمالاته، ونعمه وأعطياته، والقرآن وفتوحاته، والرسول وكراماته، ثم الإيمان وأركانه، والإسلام وأعلامه، والإحسان وبيانه.. وتأييد ذلك ببديع القول، ولطيف الإشارة، ومساق المثل، وأعجوبة القصة، وبليغ الشعر، ومكتشف العلم الحديث، وعبرة التاريخ. مراعىً في ذلك المقصود الأسمى في تحريك القلوب، وتصفية العقول، وضبط السيرة.. دون إيغال في جدليات لا تناسب المقام، أو تذهب ببهجة الكلام. أما تفصيلات الأحكام فلها حيزها المحدود، فلا تستأثر بالأمر، ولا يخرج الحديث إلى تشقيق مفرط، أو تشهير محبط، أو محاكمة بين الأقران، أو تهديد بلاهب النيران. اللهم إلا إذا جاء الحديث عن قطعيات ومحكمات، من واجبات أو محرمات؛ فهناك يكون الاقتداء بمنهج القرآن في الوعد والوعيد. وأيُّ تَثْريبٍ على خطيب يأمر بالصلاة والزكاة، أو ببر الوالدين وصلة الأرحام، أو بالإحسان إلى الجيران، أن يشفع حديثه بوعد صدق للعاملين، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين؟! أم أيُّ تثريبٍ على خطيبٍ ينهى عن الشرك وأسبابه، أو العقوق، أو بخس الحقوق، أو فواحش الأخلاق، أو محكمات المنهيات في الشريعة أن يَزَعَ النفوس بوعيد ترجف له القلوب، وتصطك له الأسماع؟ ولعل هذا وذاك خير من عزل الوعد والوعيد عن أسبابها، وإفرادهما إفرادًا يرسل النفوس مع رجاء، أو يقطعها من خوف. أما مواطن الاختلاف، وتعارك الأسلاف، فحقيق بمن مرّ عليها أن يمر مرور الكرام، عارضًا لكل أحد حجته، ملتمسًا عذره، غير مهدّدٍ ولا متوعد. على أن الأمر كله في ذلك موصول بكل جديد، ومستفيدٌ من عبر الزمان وأحواله وتقلباته، ومن شهادة الواقع ومعاناته، ومن فتوح العلم ومنجزاته. ثم إن حاجات الواقع أوسع من ذلك وأفسح. فقضايا الاجتماع، والعلاقات الاجتماعية بمداراتها المختلفة وتشعباتها ومشكلاتها حقيقة بالنظر الإصلاحي العميق. ومثلها قضايا الاقتصاد وتطوراته وشؤونه وميادينه.. والفقر والبطالة وآثارها... ومعيار طلب الدنيا وطلب والآخرة. وهكذا الشأن في مسائل الإعلام ووسائله، وخيره وشره، وحلوه ومره. ثم أمور السياسة: مداراتها، واتجاهاتها، وخطئها وصوابها، ثم منجزات العلم في كل الميادين، من طب، وصناعة، وفلك، وتربية، وإدارة، وحاسب، واتصال. وهذه البنود شديدة اللصوق بحياة الناس الأسرية والفكرية، ولذا فهم شديدو التعلق بطرقها، متى كان الطارق حاذقًا، والمحلّ موافقًا والحال مواتيًا.