في لبنان -كما قلت في مقال أمس- لا يمكن تصفية تيار فكري بمجرد النجاح في تصفية الحزب السياسي الذي يمثله. الكتائب مثلاً لم تستطع بعد تصفية بشير الجميل أن تحافظ على قوتها كتنظيم أو حزب أو ميليشيا مسلحة، لكن ذلك لم يؤثر إطلاقًا على احتفاظ مبادئها بشعبية واسعة، حتى بعد أن تورّطت في أسوأ مجزرة عرفها التاريخ العربي الحديث، وأعني بها بالطبع مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. في لبنان يمكن أن يسقط الحزب أو ينهار التنظيم، لكن التيار الفكري الذي يمثله الحزب لا يمكن أن ينتهي هكذا. القصة في لبنان لا تنتهي بربح أو خسارة معركة على الأرض، المعركة الكبرى تجري في العقول وليس على جبهات القتال، ولا حتى في أروقة مؤسسات الدولة. في لبنان خسرت أحزاب وتم ترويض أخرى على أرض الواقع، لكن نهج تلك الأحزاب ما زال قائمًا، وسيظل حتى وقت لا يمكن التنبؤ بحلوله. الكتائب على سبيل المثال لم يعد يمتلك كحزب سياسي، الجماهيرية الواسعة التي جعلته يومًا ما يحتكر تمثيل اليمين المسيحي التقليدي وتحديدًا منذ ما يعرف بمجزرة الصفراء (1980)، حيث تم القضاء على ميليشيا النمور بقيادة داني شمعون. لكن الكتائب سرعان ما وجدت وريثًا شرعيًّا تجسد في القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع. بالمقابل فإن اغتيال أو اختفاء زعيم حركة أمل السيد موسى الصدر، ساهم في ابتعاد الحركة عن خطها وتوجهاتها الرئيسة، لكن الواقع سرعان ما أفرز وريثًا شرعيًّا للحركة تمثل في حزب الله الذي تم تأسيسه بعد اختفاء السيد الصدر بأربع سنوات فقط. في لبنان لا يموت أحد، فلكل تيار وريث. وفي لبنان ليس شرطًا أن ينتمي الوريث لنفس الاسم، الوريث يأتي أحيانًا من رحم حركة وليدة، أو تيار ناشئ، أو انشقاق مدوٍّ، كما حدث مع سمير جعجع رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية، عندما انشق عن حزب الكتائب بعد مقتل زعيمه بشير الجميل، وحلول شقيقه أمين محله. كل ذلك يجعل من حل الإشكال اللبناني بالقوة أمرًا محكومًا عليه بالفشل. وكل ذلك يعني أيضًا عدم واقعية أي حل توافقي يجمع بين الفرقاء اللبنانيين. ليس هناك حل سوى إجراء تعديلات دستورية تضمن تحول البلاد التدريجي إلى الديمقراطية في صورتها التقليدية، بعيدًا عن نظام المحاصصة الطائفية. [email protected]