لم تعرف النظرية كمصطلح متداول في التراث الفقهي، وإن وجد المضمون وما عرف من كتب تراثية تحمل اسم نظرية مثل (نظرية العقد) لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهي من تصرف الناشر من باب التسويق غالبًا، لكنها لم تعرف وتتداول إلا في هذا العصر، عصر النظريات عمومًا والقانونية على وجه الخصوص. وقد تزامنت مع حرص عدد من الفقهاء المعاصرين على تجديد الفقه وتطويره وتحريك الدماء في شرايينه، لينبعث من جديد قائمًا بمهمته في نهضة الأمة ووحدتها وتفردها. حيث رأوا أن الفقه قد تخلى عن دوره في مواطن كثيرة وحل محله القانون الوضعي فيها، ولعل أهم الأسباب في نظرهم عدم مجاراة الفقه للواقع، فلا بد من تجديد الدراسة والبحث الفقهي ومن ذلك إيجاد أو إنشاء أو استخراج النظريات الفقهية. وكان منطلقهم دافع الغيرة على الفقه الإسلامي والتصدي للشُبهة التي أثارها خصومه من عدم قدرته على مواكبة العصر، وأن قضاياه صالحة لأزمان مضت فقط، وأن القانون الغربي متفوق عليه من وجوه كثيرة. وأنه نتاج قرون الانحطاط، وأنه في جوانبه المتميزة إنما نقلها من القانون الروماني وليست هذه الجوانب أصيلة في الفقه، كما اتهم بخلوه من المعاني والحكم التي تخاطب العقول، مما اضطر نفر من المعتنين بالفقه للدفاع عنه وإظهار أصالته وتفرده وتميزه، ومن ذلك اهتمامهم بالنظرية الفقهية، ورأوا أنها استجابة لمطلب العصر، وأن الفقه، على فرض خلوه منها، لا بد أن يكمل مسيرته وتطوره ليقدم للعالم أروع النظريات. ويعتبر هذا تتميمًا لجهود العلماء السابقين، حيث كانوا متفاعلين مع ثقافات عصورهم مستجيبين لقضاياها مما ساهم في ازدهار الحضارة الإسلامية،وقد أثروا الفقه بدراسات دقيقة واسعة من الممكن حصرها في ثلاث حقول رئيسية: الأول: أصول الفقه، وهو يبين المصادر الأصلية والتبعية التي يرجع إليها الفقيه بصورة إجمالية، كما يرسم المنهاج الذي يسلكه الفقيه لاستنباط الأحكام من أدلتها، كذلك يذكر الصفات المؤهلة لذلك وهو ما يسمى بالاجتهاد وعكسه التقليد. ويندرج ضمن إطار أصول الفقه مقاصد الشريعة والجدل، وإن كانت قد أفردت بمؤلفات، وحاول بعضهم إخراجها، لكنها تبقى ضمن نطاق أصول الفقه. والثاني: الفقه وهو الثمرة وهو جزيئات المسائل وفرعيات الأحكام الشاملة لحياة الإنسان من جميع جوانبها سواء في علاقته مع ربه، وهي العادات، أو علاقته مع الناس وتتمثل في المعاملات والأنكحة والجنايات وما يتعلق بذلك، وكل ماله صلة بحياة الإنسان والثالث: القواعد الفقهية وهي (أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكامًا تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعاتها). ويندرج في إطار القواعد الفقهية علم الفروق والأشباه والنظائر والألغاز والمطارحات. فإكمالًا لمسيرتهم لا بد من إضافة ما يحتاج إليه الفقه من تطوير أو إعادة صياغة ومن ذلك النظرية. وقبل أن ندخل في صميم الموضوع لا بد من تصور النظرية حتى يكون تناول الموضوع عن بينة. لقد عرف الفقهاء المعاصرون النظرية الفقهية بعدة تعريفات: 1-عرفها الدكتور مصطفى الزرقاء بقوله: (نريد من النظريات الفقهية الأساسية تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى التي يؤلف كل منها على حدة نظامًا حقوقيًا موضوعيًا منبثًا في الفقه الإسلامي كانبثاث الجملة العصبية في نواحي الجسم الإنساني وتحكم عناصر ذلك النظام في كل ما يتصل بموضوعه من شعب الأحكام، وذلك كفكرة الملكية وأسبابها، وفكرة العقد وقواعده ونتائجه، وفكرة الأهلية وأنواعها، ومراحلها وعوارضها، وفكرة النيابة وأقسامها، وفكرة البطلان والفساد والتوقف، وفكرة التعليق والتقييد والإضافة في التصرف القولي، وفكرة الضمان واسبابه وأنواعه، وفكرة العرف وسلطانه على تحديد الالتزامات، إلى غير ذلك من النظريات الكبرى التي يقوم على أساسها صرح الفقه بكامله، ويصادف أثر سلطانها في حلول جميع المسائل والحوادث الفقهية). 2- وعرفها الدكتور وهبه الزحيلي بأنها: (المفهوم العام الذي يؤلف نظامًا حقوقيًا موضوعيًا تنضوي تحته جزئيات موزعة على أبواب الفقه المختلفة). 3- وعرفها الدكتور محمد فوزي فيض الله بأنها: مفهوم حقوقي عام، يؤلف نظامًا موضوعيًا، تندرج تحته جزئيات في فروع القانون المختلفة). 4- وقيل: هي المفهوم الكلي الذي يدخل تحته الموضوعات المتشابهة في الأركان والشروط والأحكام العامة. 5- وقيل: بناء عام لقضايا ذات مفهوم واسع. فأنت تجد هنا ألفاظًا مشتركة أو متقاربة في دلالتها على مفهوم النظرية، مفهوم عام، مفاهيم كبرى، مفهوم كلي، بناء عام. فهذه التعاريف تشترك في وصف النظرية بالعموم والشمول والكلية وكونها مفهوم أو رؤية شاملة وليست مسائل جزئية. وهذا من خصائص النظرية فهي: (تصور يقوم بالذهن سواء استنبط بالتسلسل الفكري المنطقي أو استمد من استقراء الأحكام الفرعية الجزئية ويتصف هذا التصور بالتجريد إذ يحاول أن يتخلص من الواقع التطبيقي لينفذ إلى ما وراءه من فكرة تحكم هذا الواقع، وهو تصور يحاول أن يحيط جميع جوانب الموضوع، ويبحث كافة مستوياته وأبعاده). فهي تتناول القضية من منظور عام شامل وتحتويه احتواء من مجموعه الكلي دون الغوص في الجزئيات، ولا تلفت للجزيئات إلا من حيث توضح البناء وضرب المثال، مع ما نلاحظه أن كثيرا مما ألف تحت مسمى النظرية عن مسائل مجموعة أطلق عليها مسمى النظرية. وكأنك أمام كتاب فقهي أعيدت فهرسة مسائله،فلا تختلف عن الأطروحات الجامعية التي تختص بباب معين أو مسائل معينة وتجمعها في باب واحد. والأصح أن يقال: أحكام كذا، لا نظرية كذا، لأنها مجموع مسائل جزئية لم يجمع بينها سوى العنوان ولم يوضح المؤلفون فيها المفهوم والبناء الكلي الذي يجمع هذه المسائل بالتعريف والأحكام، بل يكتفون بالعنوان، ثم يدلفون بعد ذلك في تعداد المسائل بالتعريف والأحكام والأقوال والنقاشات والردود والتعليلات. وكأننا أمام كتاب فقهي بحت، فالأولى كما ذكرنا تسمية: أحكام كذا، لا نظرية كذا، مع أنا لا ننكر الجهود الرائعة في ذلك، وندعو للمراجعة وإكمال النقص لا الإلغاء التام، أي إتمام البناء لا البناء على أنقاض السابق. وترى كذلك في أدلة الأصول التابعة من يعنون بنظرية كنظرية الاستحسان أو نظرية المصلحة، أو نظرية القياس، ولا تعدو أن تكون ذكرا للباب كما هو في كتب الأصول بأسلوب عصري، ولا أعمم على الجميع لكن رأيت عددًا من الدراسات التي تحمل هذا الاسم في أبواب الأصول وليس لها من النظرية إلا اسمها، وانظر إلى كتب القواعد الفقهية حينما صاغها الفقهاء بطريقة تختلف عن كتب الفقه، وما زالوا يطورون صياغتها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من وجازة العبارة واتساع المعنى ككتاب الأشباه والنظائر للسيوطي الشافعي، والأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي. ثم إذا أردنا صناعة نظرية فقهية أو اكتشاف نظرية فقهية من أين نستقي النظريات وأمامنا هذه الحقول الواسعة من إنجاز علماء الإسلام من أصول فقه وقواعد فقهية، وكتب فقه مرتبة على الأبواب مذهبية أو مقارنة وعلم الفروق والأشباه والنظائر، والألغاز الفقهية والمطارحات والحيل والمخارج، والفتاوى والأقضية والنوازل، بالإضافة لكتب التفسير، وشروح السنة، وكتب السيرة، وتطبيقات الفقه على مدار التاريخ الإسلامي،فمن أين نستقي النظرية من هذه الثروة الهائلة (إن البحث عن النظريات الفقهية ليس من السهولة بالصورة التي نبحث بها عن الأحكام للمسائل الفقهية، فكتب الفقه زاخرة بأحكام الفروع، وقلما تجد فيها بحوثًا عن نظرية فقهية، إذ أن هذه النظريات متناثرة بين العديد من المصنفات، وهي بحاجة إلى اكتشاف وتجميع وترتيب). فهل نستقي النظرية من مجموع هذه العلوم المتعلقة بالفقه؟ بحكم كونها فنًا جديدًا لم يعرف؟ أم أنها أقرب شبها ببعض الحقول لذلك تعتبر امتدادا لها. وعند المقارنة بين النظريات الفقهية في صيغتها المعاصرة والحقول السابقة نجد أقربها شبها هو علم القواعد الفقهية، فهذا العلم يتضمن صياغة مختصرة كلية شاملة لعدد من مسائل الفقه تنتظمها في سلك واحد، مما حدا بالبعض إلى اعتبار النظرية الفقهية مرادفة للقاعدة الفقهية،أو صيغة عصرية مطورة لها كقاعدة (الضرر يزال) مع بعض التعديلات تتحول إلى نظرية عامة متكاملة في الضرر ومن هؤلاء الشيخ محمد أبو زهرة، فقد اعتبر النظرية مرادفة للقاعدة. بينما رأى البعض أن النظرية تختلف عن القاعدة، وفرق بينهما من عدة زوايا: 1- أن النظرية الفقهية أكثر شمولية من القاعدة وأوسع نطاقًا منها حتى إن القاعدة تنزل إلى مراتب الضابط الفقهي بجانب النظرية. 2- أن القاعدة الفقهية تتضمن حكمًا فقهيًا في ذاتها ينتقل بعد ذلك إلى الفروع التي تندرج تحتها وتدخل في نطاقها، بخلاف النظرية، فهي مفهوم عام لا تتضمن حكمًا. 3- أن النظرية تشتمل على أركان وشروط، بخلاف القاعدة فلا تشتمل على ذلك (فنظرية العقد مثلًا، تتناول التعريف بالعقد، وبيان الفرق فيما بينه وبين التصرف والإلزام، والكلام عن تكوين العقد ببيان أركانه، وشروط انعقاده، وصيغته، واقتران الصيغة بالشروط وأثر ذلك في العقد كما تتناول الكلام عن محل العقد، وعن أهلية العاقدين،وعوارضها، وعن ولايته الأصيلة والنيابية، وعن حكم العقد، وأحكام العقود، وعن عيوب العقد، وعن الخيارات وأثرها في العقود).