الكِتابة هذا السَّائل الحرفي «المُندلق» على البياض، جَعل الفَلاسفة يحارُون في تَفسيره، أهو سَائل لا طَعم له ولا لَون ولا رَائحة.. أم هو شعر معنوي التبس بشكلٍ حسي، فجَاء على شَكل عبارة صفراء تَسرُّ القَارئين.. أم هو هذا الخَليط مِن حليب الصِّدق وقهوة الشّعور، الذي لا يُغادر مُفردة صَغيرة ولا كَبيرة؛ إلَّا كَان لها بالمِرصَاد.. لتَخرج الكِتَابة مِن حيّز الهَمس، إلى حُجرة الضَّوء والصَّوت..! حقًّا.. إنَّ الكِتَابة وفق التَّصوّرات الماضية، واللحظة الرَّاهنة، تَستدعي الانتقال مِن الغِنَاء إلى التَّأمُّل، ومِن النَّشيد الحَماسي إلا الاستبطان الهَادئ، ومِن اللغة الاعتياديّة إلى أبجديّة الدَّهشة، ومِن الانفعال إلى الفعل، لمُحاولة اكتشاف العَالَم وإعادة صياغته، ليس اعتمادًا على مُواصفاتٍ جَاهزة، وإنَّما بالفعل والاختراق للبنية التحتيّة لهذا العَالَم..! إنَّ وظيفة الكِتَابة لم تَعُد مُسخَّرة لغرضٍ واحد، ومَتاعٍ واحد، وكأنَّ اللغة منزلاً قد جُعِلَ وقفًا لهدفٍ مُحدَّد..! إنَّ الكِتَابة.. مِثل مَن يَسرق النَّار، أو قُل «مِثل القَابض على الجَمر».. «فلا تَلعب بالنَّار لأنَّها تَحرق أصابعك»، ومَن يَمسك بالقَلم كالذي يَقود المَركبة، مَتى كان «غشيمًا جاهلاً» التهمته المُفاجآت، وعَانقته الأرصفة..! خُلقنا لنَمشي على الأقدَام، والكِتَابة في نهاية بَراعتها، مَشي على الأيدي، وقَفز للحواجز الرَّمليّة و»البشريّة»، فإيَّاك إيَّاك «أن تَكون مِن ذوي الدَّفع الخلفي»..! الكِتَابة ضَربٌ مِن الرّوح المُشرئبّة إلى التَّحليق، «وحلاوة الطّير تَحليقه»، التَّحليق الذي يُقارب السَّماء.. والجَسد بكينونته تُرابي، يَميل إلى الأرض.. ومَا الكِتَابة إلَّا النِّزاع المُشتعل بين الرّوح والجَسد..! الكِتَابة.. مَاء الوَرد إذا ذَهب الوَرد.. الكِتَابة صَدى السّنين، وصَوت الزَّمن المُتواري خلف الأيَّام، الكِتَابة عقد الحسناء، وطوق الحَمَامة، والرَّسَن الذي يُطوّق «الفَرس»، بل هي ذلك السّلسال الذَّهبي الذي تُقيَّد فيه «الغزالة»..! إنَّ الكِتَابة التي يُطمح إليها، ونَتطلع إليها، ونَبتهج بها، هي التي تتعب الوَرقة، وتَخترق العين، وتَسكن الذَّاكرة..! فالكِتَابة تَتجاوز «البسيط»، لتُسافر إلى «العَميق» الصَّعب.. وتهجر اليسير، لتَسكن في الوعر.. «فصعبُ العُلا صَعبٌ.. والسَّهلُ في السَّهلِ»..! حَسنًا.. مَاذا بَقي..؟! بَقي القَول: يَجب التَّفكير في الفَرق بين الفعل «كَتَبَ» والفعل «كَبَتَ»، ومَتى فُرِّق بين هذين الفعلين في «المَضاجع والمَعاني»، أدركنا مَعنى كُلّ مِنهما، على أنَّ الفعل «كَتَبَ» خيرٌ مِن أخيه الآخر «كَبَتَ»..!.