حملة تشويش يشنها البعض على قرارات مجمع الفقه الإسلامي ومنهجيته منذ أن أصدر قراره بشأن التورق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظم)، في دورته التاسعة عشرة التي عقدت بإمارة الشارقة، دولة الامارات العربية المتحدة، في ابريل عام 2009م والذي حرم فيه التعامل بالتورق المنظم والعكسي، لما ينطويان عليه من مخالفات شرعية، فمنذ أن صدر هذا القرار بدأ بعض المنتسبين الى الاقتصاد الاسلامي في انتقاد القرار، والتشكيك في الآلية التي يتخذ بها المجمع قراراته. وقبل ان ابدأ في تفنيد وتوضيح الحقيقة بشأن الادعاءات التي يرددها البعض حول: قرار المجمع بشأن التورق المنظم والعكسي، أود بيان الآتي بشأن قرارات المجمع ومنهجيته بصفة عامة: اولا: ان مجمع الفقه الاسلامي الدولي مؤسسة فقهية تقوم على الاجتهاد الجماعي في النوازل والقضايا التي تعرض عليه، ويضم مجلسه عددًا كبيرًا من كبار فقهاء الأمة من سائر البلاد الاسلامية، الذين يمثلون الدول الاعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي، بالاضافة الى عدد كبير من الخبراء في التخصصات المختلفة: الفقهية والاقتصادية والطبية والأسرية والجنائية، وغيرهم ممن يستعين بهم المجمع في توضيح القضايا التي يختصون فيها، والتي يحتاج فهمها الى متخصصين، حيث يقوم هؤلاء الخبراء بتصوير المسائل محل الدرس والنقاش للفقهاء من خلال تعريفهم بمفاهيمها وغاياتها ليتمكنوا من بيان حكم الشرع فيها، عملا بالقاعدة: الحكم على الشيء فرع من تصوره. ومن ثم فمجلس المجمع لا يصدر قرارًا شرعيًّا في قضية من القضايا الا بعد دراستها دراسة متأنية من الفقهاء والمختصين، يصعب بعدها القول بأنه تسرع في اصدار القرار فيها، او كذا وكذا. ثانيا: أن المجمع منذ نشأته، قد تبنى المنهج الوسطي القويم الذي يعتمد على الدليل الشرعي، ويراعي مقاصد الشرع الحكيم، ويوازن بين المصالح والمفاسد، (المصالح الشرعية، لا الخاصة). وأن علماءه وخبراءه عند بحثهم لأي قضية من القضايا يقومون بمناقشة القضايا التي تعرض عليهم بحيادية تامة، لا يهمهم عند بحثها الا الوصول الى الحق، بعيدًا عن الأفكار المتطرفة والآراء الشاذة، ودون التفات لمصالح الأشخاص او الفئات، فلا مكان فيه لمبتدع ولا لصاحب هوى ولا مصلحة. ثالثا: قد اعتمد المجمع منذ نشأته آلية تتميز بالنزاهة والحيادية والواقعية عند إرادة بحثة ومناقشته للقضايا التي يريد بيان حكم الشرع فيها، وخاصة عندما يريد عقد مؤتمره السنوي، وهذه الآلية مؤداها: انه يستطلع آراء العلماء والمختصين في الدول الاسلامية، لمعرفة القضايا التي يتعين بحثها ومناقشتها تبعا لمتطلبات الحياة، ثم تجمع تلك الموضوعات، ويتم الاختيار فيما بينها حسب الأهمية، وبعد ذلك يتم اختيار الباحثين لكل موضوع بناء على المعرفة السابقة بتخصصاتهم النظرية وممارساتهم العملية على أن لا يقل عدد الباحثين في الموضوع الواحد عن خمسة باحثين، مما يعني اتاحة الفرصة لتعدد الآراء التي تثري الموضوع، وبعد أن ينتهي الباحثون من اعداد بحوثهم، ترسل البحوث بقدر الإمكان إلى الأعضاء للاطلاع عليها وابداء الرأي فيها، ثم يعقد مجلس المجمع جلساته لمناقشة الموضوعات، ويخص كل موضوع بجلسة أو أكثر، على أن لا يقل زمن الجلسة الواحدة عن ساعتين، يعرض عند مناقشة كل موضوع ملخص البحوث على المجلس والحضور، ثم تفتح المناقشة الحرة لمن اراد بكل حرية، وبعد انتهاء مناقشات الموضوع تشكل لجنة فرعية من الباحثين فيه لصياغة مشروع قرار له، ثم يعرض المشروع على لجنة الصياغة العامة التي تشكل عند افتتاح المؤتمر، والتي تضم مقرري اللجان الفرعية، وعددًا من كبار العلماء والمختصين، والمقرر العام للمؤتمر، وتكون مهمتها النظر في المشروعات التي أعدتها لجان الصياغة الفرعية، ويكون لها الحق في أن تعدل ما ترى تعديله تبعًا لمقتضيات المصالح والمفاسد الشرعية المعتمدة على الدليل الشرعي. وبعد أن تصل لجنة الصياغة العامة الى الرأي الذي تطمئن إليه، تعرض جميع مشروعات القرارات على مجلس المجمع الذي يقوم بدوره بالنظر فيها ومناقشتها في جلسة تمتد لساعات قبل اعتمادها، واذا تم الاتفاق على مشروع القرار المعروض بعد مناقشته تم اعتماده، وفي حالة حدوث خلاف في الرأي بين أعضاء المجلس حول الحكم الشرعي لاي منها، يقوم رئيس المجلس بعرض الموضوع على الأعضاء للتصويت عليه، وعندئذ يتم اعتماد الرأي الحائز على الأغلبية. رابعا: ان المجمع قد أصدر منذ نشأته 185 قرارًا فقهيًّا، عالج فيها عددًا كبيرًا من القضايا التي يحتاج المسلم الى معرفة حكم الشرع فيها لأهميتها وارتباطها بحياته اليومية، وهي متنوعة بين: تعبدية واقتصادية وطبية وجنائية وأسرية وفكرية، الخ. اما بخصوص قرار المجمع في موضوع التورق المنظم والتورق العكسي، وآلية اتخاذ القرار في المجمع فقد وجهت اليهما بعض الانتقادات اذكر منها: 1- ان ال16 بحثًا ارتكزت عليها فتوى التحريم الصادرة من مجمع الفقه الاسلامي تكشف عن اجازة هذ المنتج (التورق) بدلا من تحريمه. 2- ان المجمع قد توصل الى قراره بالتحريم بطريقة سريعة، والدليل على ذلك ان احد البحوث التي قدمت الى المجمع تم اعداده على عجل، وقدم الى المؤتمر بساعة واحدة من انعقاد الجلسة، فكيف يستطيع الحاضرون قراءته؟ 3- أنه بعد مراجعة ال16 بحثًا تبين ان معظم من كتبوها يقولون: إن التورق جائز شرعًا، وهم لا يقفون ضده. 4- انه كان على مجمع الفقه ان يتروى، ويمعن النظر في الموضوع قبل ان يعلن قرارًا جاء معاكسًا للفتوى الصادرة في السابق عن: هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الاسلامية. 5- ان فتوى مجمع الفقه الاسلامي في التورق اصبحت مثل قولنا: ان جميع الصكوك محرمة بسبب الأدلة، في إشارة الى ان المجمع يعمم الحكم بالتحريم دون التفات الى الفرق بين مؤسسة تلتزم بالشرعية وغيرها. 6- ان العامة هم من سيتخدون القرارات النهائية في حل التورق وحرمته. 7- على المجمع ان يفرق بين التورق المنضبط وغير المنضبط. 8- الرجاء من الشيخ صالح بن حميد ان يتأمل في آلية عرض القضايا، وفي آلية بحث القضايا الفقهية، فالباحثون يقومون بكتابة تقارير مفصلة ثم تعرض في يوم او يومين من دون مناقشة دقيقة، فهل هذه الآلية صحيحة؟ ارجو منهم كطالب ان يعيدوا النظر في هذه الآلية. هذه هي بعض الانتقادات التي وجهت الى قرار المجمع في التورق المنظم والعكسي، وآلية اتخاذ القرارات، والجواب عنها بتوفيق الله تعالى فيما يلي: * أن المجمع قد بين في قراره عن التورق: ماهية التورق وحكمه، على النحو التالي: أولًا: ان التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من اجل ان يبيعها نقدًا بثمن اقل غالبًا الى غير من اشتريت منه بقصد الحصول على النقد وهذا التورق جائز شرعًا شرط ان يكون مستوفيًا لشروط البيع المقررة شرعًا. اما التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: فهو شراء المستورق سلعة من الاسواق المحلية او الدولية او ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (الممول) ترتيب بيعها اما بنفسه او بتوكيل غيره او بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك وذلك بثمن حال اقل غالبًا. والتورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل. ثانيًا: لا يجوز التورقان (المنظم والعكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤًا بين الممول والمستورق صراحة او ضمنًا او عرفًا تحايلًا لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا. ويوصي بما يلي: التأكيد على المصارف والمؤسسات المالية الاسلامية بتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة التزامًا بالضوابط الشرعية. تشجيع القرض الحسن لتجنيب المحتاجين اللجوء للتورق وانشاء المؤسسات المالية الاسلامية صناديق للقرض الحسن والله اعلم. هذا هو نص قرار المجمع في التورق. وكما هو واضح فان مجلس المجمع قد بين ان الحكم الشرعي في اصل التورق شرعًا هو الاباحة فهو لم يحرم التورق جملة ولم يحرم اصل التورق وانما الذي حرمه هو: التورق المنظم والعكسي، وان المجمع لم يصدر قراره فيهما بالتحريم الا بعد فقدان المعاملة (التورق المنظم والعكسي) للشروط التي بها تصير حلالاً ومن ثم فان المجمع قد راعى عند الحكم بالتحريم توفر الشروط الشرعية في هذه المعاملة شأنه في ذلك حيث قال: ان التورق يكون جائزًا اذا طبق بشكل صحيح وبناء على ما تقدم يكون المحرم من التورق هو:التورق المنظم والعكسي، وعليه فلا مجال للقول بأن المجمع قد حرم التورق مما يوحي انه حرمه جملة وتفصيلاً. • انه منذ ان اراد الله تعالى للمجمع ان يوجد قد هيأ لامانته ورئاسته مجلسه بالإضافة الى اعضاء مجلس علماء اجلاء ومختصون فضلا فقد من تعالى على رئاسة مجلسه بعالمين وشيخين جليلين هما فضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبدالله ابوزيد – رحمه الله – ثم خلفه فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد حفظه الله تعالى كما تولى إدارة امانته عالمين جليلن وشيخين فاضلين هما فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة وفضيلة الشيخ الدكتور عبدالسلام داود العبادي حفظهما الله تعالى ولا يستطيع احد ان ينكر علم هؤلاء وفضلهم وما يتمتعون به من امانة علمية وحرص على سلامة المنهجية التي توصل الى قرار صائب – بإذن الله تعالى -. • انه منذ ان وجد المجمع لم يتعرض احد بالطعن في قرار من قراراته بهذه الطريقة التي يتم فيها الحديث عن قراره في التورق ولا ادري لماذا هذا؟ • ان جل الانتقادات موجهة الى الشكل وهو الآلية ومن ثم يكون القرار صحيحًا لأن عدم اكتمال الشكل لا يؤثر في المضمون. • انه اذا توفرت شروط البيع الشرعية بعيدًا عن التحايل والصورية صار التورق منضبطًا ومن ثم صار حلالًا واذا لم تتوفر الشروط صار غير منضبط وغير جائز شرعًا وهذا هو الفرق بين التورق المنضبط وغيره لأني لا اعلم فرقًا بين المنضبط وغيره بهذا. • ان المجمع يؤكد على ان أي مخالفة بالتحايل والصورية تعتري التطبيق في المعاملات الاسلامية سوف تؤدي الى تشويه صورة النظام المالي الاسلامي ومصداقيته كما يؤكد على ان الضمانة الوحيدة لازدهار التعاملات الاسلامية وانتشارها واستمرارها هو عدم مخالفتها لاحكام الشريعة الاسلامية وان أية صورية او تحايل او استغلال يشوب أي مرحلة من مراحل التعامل فيها لسوف يجعلها عرضة لان تهوي بها رياح البوار والكساد في مكان سحيق ولو وقع ذلك – لا سمح الله – فان الضرر لن يصيب الذين ظلموا خاصة وانما سوف يعرض النظام المالي الاسلامي برمته لانتكاسة قد تؤثر على تميزه او تنال من مصداقيته ردحًا من الزمن. • ومع كل ما سبق يسعد المجمع ان يتفضل العلماء والمختصون بابداء ارائهم حول ما يصدره من قرارات وفتاوى شرعية اذا لاحظوا خطأ فيها او في المنهجية التي يتبناها بأسلوب علمي يوضح وجهة نظرهم شريطة الالتزام بضوابط الاجتهاد الشرعي المعتمد على الدليل بعيدًا عن التشهير والتجريح والطعن الذي يفقد العلماء والمؤسسات الفقهية المصداقية لدى العامة لا فرق في هذا بين ما افتى وبين من شكك والله ولي التوفيق.