لا أكتمكم سراً بأنني أصبت بنوع شديد من الأرق والقلق، حتى خشيت أن يتحول إلى رؤية تشاؤمية، قد تنسحب على حياتي الشخصية، كل ذلك من جراء كثرة المتمردين والعابثين ببعض القيم والسلوكيات الحميدة التي حثنا عليها ديننا الحنيف.فأثناء كتابتي لمقالي السابق (استشرِ يافساد) أخذت تتزاحم في ذاكرتي مشاهد الفساد الإداري والمالي في بعض الأجهزة والدوائر الحكومية والخاصة، بل ومن بعض الأفراد الذين أعماهم حب المال والغنى الفاحش، فهالني الكم الهائل من تلك المشاهد، وأفزعني تناميها، وكم وددت أن أشركك معي أخي القارئ في استرجاع ذلك الشريط المؤلم، غير أن مساحة المقال تمنعني من ذلك، ومع هذا سأحاول تذكيرك ببعض حلقات ذلك الشريط التي مازالت قريبة من الذاكرة، ألا تتذكر قضية جزر البندقية الوهمي الذي بدد أحلام الكثيرين بعد أن أتى على الأخضر واليابس في أرصدتهم، ومن ذا ينسى هوامير سوا الذين استغلوا وطمعوا فيما في أيدي المواطن الغلبان الجاهل بفنون الألعاب الاقتصادية القذرة، هذا مع غياب العقوبات الصارمة، وموت الضمائر، وانخفاض الحس الديني، وانحسار البعد الإنساني، وليس أسوأ من ذلك (مافيا الأسهم) التي حصدت ما في جيوب المتعطشين للاستثمار السريع بغية تأمين حياة شريفة لهم ولأولادهم، فكان منهم الفاقد لعقله والراقد في قبره، وآخرها (مافيا العقار) التي لم ترع حق الجوار، هذا الفساد الذي لم تسلم منه المساجد دور العبادة... الخ.. ألم تقرأ عن ذاك الإمام الذي استغل ثقة الناس به فأخذ يلملم التبرعات ويفرغها في حسابه الخاص، وليس أمر الجمعيات الخيرية عنك ببعيد، وما حصل في بعضها من نهب وسلب، حتى احتار الناس في أمر تبرعاتهم، وأصبحوا في خيفة من التبرع بأي فلس، كيف غاب عن ضمير هؤلاء قوله تعالى: « إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) الأحزاب (72). وقوله عز من قائل: (فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ...) البقرة (283).ماذا أصاب الناس في بلد الإسلام ومهبط الوحي الذي تصدح فيه المنابر ليل نهار؟ إن أخوف ما أخافه أن نكون على أعتاب الساعة، وأن نكون نحن من عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه مع ذاك الأعرابي الذي سأله متى الساعة؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة)، قال: كيف إضاعتها؟ قال: (إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، رواه البخاري، وهؤلاء الذين لهطوا وشفطوا أموال العباد لم يكونوا أهلاً لتلك المناصب، وإنما تحايلوا على الناس ولبسوا مسوح التقوى والأمانة حتى وثقوا بهم.إن تشاؤمي هذا ليس هو من وحي نفسيتي التي باتت متشائمة، بل إنه يستند إلى أصل ديني موثوق، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران: فما أدرى قال النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، ويُنذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السِّمَن) متفق عليه. وإن بعض المقولات العلمية الصحية تذكر أن معدل السِّمَن في ديارنا من أكبر المعدلات في العالم، هذا بحسب ما تورده لنا الصحف والأخبار.وتشهد مجالسنا على صحة هذا الخبر، فما من مجلسٍ إلا ونتحدث فيه عن السمنة وعن الرجيم والحمية.ما رأيك أخي القارئ في هذا النقص الحاد والانحدار في السلوك؟ هل هو ناتج عن قصور في تربيتنا الدينية والاجتماعية، لا من حيث المنهج، فالمنهج الرباني واضح وهو صالح لكل زمان ومكان؟!.في ظني أن السبب يعود إلى فشلنا في تطبيق المنهج الرباني، وجعله سلوكاً عملياً، وعجزنا عن تربية الوازع الديني في النفوس وغرس مخافة الله في القلوب.نحن بحاجة إلى انتفاضة علمية صادقة من علماء الدين والتربية والاجتماع، وجميع المؤسسات التربوية وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة والمسجد ومراجعة آلياتنا التربوية في غرس هذه القيم في ظل الحياة المادية ومغرياتها التي أفرزتها العولمة العصرية حتى أصبح العالم بلهواته وشهواته بين أيدي أبنائنا، ونحن نقف مذهولين مكتوفي الأيدي.